الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فنوازل النكاح المتعلقة بالأقليات المسلمة وتفاصيلها من المسائل الشائكة التي تباينت فيها اجتهادات العلماء المعاصرين، ومن هذه المسائل: ولاية المراكز الإسلامية في نكاح المرأة المسلمة التي ليس لها ولي شرعي. والذي نراه في هذه المسألة أن الأمر يختلف حكمه بحسب الحال:
- فإن كان القائمون على المركز الإسلامي عدولا مرضيين، واتفقت عليهم كلمة المسلمين، أو كلمة أكثرهم هناك، بحيث ينفذ حكم المركز؛ لما له من وجاهة ونفوذ، فلا يصح في هذه الحال أن يخول إلى غيره ولاية نكاح المرأة المسلمة التي ليس لها ولي شرعي؛ لكونه – والحال هذه – يقوم مقام أهل الحل والعقد، أو مقام القاضي، باعتباره يمثل جماعة العدول في هذه المحلة.
جاء في كتاب المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوى أهل أفريقية والأندلس والمغرب، لأبي العباس الونشريسي (10 / 102 - 103): سئل أبو جعفر أحمد بن نصر الداودي عن امرأة أرادت التزويج، وهي ثيب ولا حاكم بالبلد، وأولياؤها غيب، ترفع أمرها إلى فقهاء البلد فيأمروا من يزوجها، وكيف إن لم يكن بالبلد عالم ولا قاضٍ أترفع أمرها إلى عدول البلد في البكروالثيب؟
فأجاب: إذا لم يكن في البلد قاضٍ فيجتمع صالحو البلد ويأمرون بتزويجها ...
وسئل أيضًا عن بلد لا قاضي فيه ولا سلطان أيجوز فعل عدوله في بيوعهم وأشريتهم ونكاحهم؟
فأجاب: بأن العدول يقومون مقامَ القاضي والوالي في المكان الذي لا إمامَ فيه ولا قاضي، قال أبو عمران الفاسي: أحكام الجماعة الذين تمتد إليهم الأمور عند عدم السلطان نافذ منها كلُّ ما جرى على الصواب والسداد، في كل ما يجوز فيه حكم السلطان. اهـ.
وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية (كما في مجموع الفتاوى) عن أعراب نازلين على البحر وأهل بادية وليس عندهم ولا قريبا منهم حاكم، ولا لهم عادة أن يعقدوا نكاحا إلا في القرى التي حولهم عند أئمتها: فهل يصح عقد أئمة القرى لهم مطلقا لمن لها ولي، ولمن ليس لها ولي ... ؟
فأجاب: أما من كان لها ولي من النسب، وهو العصبة من النسب أو الولاء: مثل أبيها وجدها وأخيها وعمها وابن أخيها وابن عمها وعم أبيها وابن عم أبيها .. فهذه يزوجها الولي بإذنها .. وأما من لا ولي لها فإن كان في القرية أو الحلة نائب حاكم زوجها هو وأمير الأعراب ورئيس القرية. وإذا كان فيهم إمام مطاع زوجها أيضا بإذنها. اهـ.
وجاء في اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية للبعلي (ص: 204): إذا تعذر من له ولاية النكاح انتقلت الولاية إلى أصلح من يوجد ممن له نوع ولاية في غير النكاح، كرئيس القرية - وهو المراد بالدهقان - وأمير القافلة ونحوه. اهـ.
وقال الدكتور عمر الأشقر في (الواضح في شرح قانون الأحوال الشخصية الأردني ص 70): إذا زال سلطان المسلمين أو كانت المرأة في موضع ليس فيه للمسلمين سلطان، ولا ولي لها مطلقا؛ كالمسلمين في أمريكا وغيرها، فإن كان يوجد في تلك البلاد مؤسسات إسلامية تقوم على رعاية شؤون المسلمين فإنها تقوم بتزويجها، وكذلك إن وجد للمسلمين أمير مطاع أو مسؤول يرعى شؤونهم. اهـ.
- وأما إذا كان القائمون على المركز الإسلامي غير عدول، أو لا تتفق عليهم كلمة المسلمين هناك، وبالتالي لا ينفذ حكمهم، ولا يكون لهم محل أهل الحل والعقد أو مقام القاضي، فهنا لو ولَّت المرأة أمر زواجها لرجل عدل، سواء إمام المسجد أو غيره من أمناء المسلمين: صح نكاحها.
قال ابن قدامة في المغني: فإن لم يوجد للمرأة ولي ولا ذو سلطان، فعن أحمد ما يدل على أنه يزوجها رجل عدل بإذنها، فإنه قال في دهقان قرية: "يزوج من لا ولي لها إذا احتاط لها في الكفء والمهر، إذا لم يكن في الرستاق قاض" ... ووجه ذلك أن اشتراط الولي هاهنا يمنع النكاح بالكلية، فلم يجز، كاشتراط المناسب في حق من لا مناسب لها. اهـ.
ونقل هذه المسألة عن الإمام أحمد: شمس الدين المقدسي المكي في كتابه (المسائل المهمة فيما يحتاج إليه العاقد عند الخطوب المدلهمة ص: 77).
وقال ابن عبد البر في (التمهيد): إذا كانت المرأة بموضع لا سلطان فيه ولا ولي لها، فإنها تصير أمرها إلى من يوثق به من جيرانها فيزوجها ويكون هو وليها في هذه الحال؛ لأن الناس لا بد لهم من التزويج، وإنما يعملون فيه بأحسن ما يمكن، وعلى هذا قال مالك في المرأة الضعيفة الحال إنه يزوجها من تسند أمرها إليه لأنها ممن تضعف عن السلطان، وأشبهت من لا سلطان بحضرتها، ورجعت في الجملة إلى أن المسلمين أولياؤها. اهـ.
وقال الخطيب الشربيني في (مغني المحتاج): لو عدم الولي والحاكم فولت مع خاطبها أمرها رجلا مجتهدا ليزوجها منه صح؛ لأنه محكم والمحكم كالحاكم، وكذا لو ولت معه عدلا صح على المختار، وإن لم يكن مجتهدا لشدة الحاجة إلى ذلك ... وأما الذي اختاره النووي أنه يكفي العدالة، ولا يشترط أن يكون صالحا للقضاء فشرطه السفر وفقد القاضي. وقال الأذرعي: جواز ذلك مع وجود القاضي بعيد من المذهب والدليل؛ لأن الحاكم ولي حاضر، ويظهر الجزم بمنع الصحة إذا أمكن التزويج من جهته. اهـ.
وجاء في الفتاوى الفقهية الكبرى لابن حجر الهيتمي أنه سئل عن مسألة وقع فيها جوابان، صورتها: امرأة لا ولي لها ولت أمرها رجلا فزوجها، فهل يصح نكاحها أو لا؟
وذكر جوابين مطولين متعارضين بين الصحة وعدمها، فاعتمد ابن حجر الجواب الأول، والذي نصه: يصح نكاحها إذا ولت أمرها رجلا؛ لأن يونس بن عبد الأعلى روى عن الشافعي - رضي الله تعالى عنه - أنه قال: إذا كان في الرفقة امرأة لا ولي لها فولت أمرها رجلا فزوجها جاز. واختاره الشيخ محيي الدين النووي - رحمه الله تعالى - قال ابن مأمون وكان مشهورا من جملة أصحاب الشافعي - رضي الله تعالى عنه - سمعت المزني يقول: سمعت الشافعي يقول: إذا كانت المرأة في جوار قوم ليس لها زوج ولا هي في عدة من زوج ولا لها ولي حاضر فولت أمرها رجلا من صالحي جيرانها فزوجها تزويجا صحيحا، فالنكاح جائز. قال المزني: فقلت للشافعي: فإنا نحفظ عنك في كتبك أن النكاح باطل؟ فقال الشافعي: إن الأمر إذا ضاق اتسع، شاهدان عدلان أن لا ولي لها حاضر ولا لها زوج ولا هي في عدة من زوج. قال الإمام الأزرق: وحكم المواضع التي لا حاكم فيها ولا يمتد إليها أمر الحكام من الرفقة فيما يظهر في جواز تولي أمرها إلى عدل ... اهـ.
والله أعلم.