الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فمن الممتنع أن يلتبس الوحي على النبي بغيره، وأن يتصور له الشيطان في صورة الملك مثلا فيُلَبِّس عليه، فكل ما أوحاه الله إلى النبي، فإنه يجزم ويقطع أنه وحي من الله تعالى، قال تعالى: وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ {الشعراء:210، 211}.
والوحي يكون بطرق مختلفة، فمنها تكليم الملك للنبي، وهذا لا يشك النبي فيه بحال في أنه من عند الله، ومنها إلقاء الله في رُوعه ما يشاء، وهذا أيضا من الوحي الذي لا يشك النبي فيه في أن ما أتاه من عند الله، وأعلى مراتب الوحي أن يخاطب الله به نبيه مباشرة.
وكيف يتصور أن النبي يمكن ألا يكون متيقنا أن ما أتاه وحي؟ هذا من أمحل المحال، يقول الدكتور عمر الأشقر -رحمه الله- مبينا مقامات الوحي ومراتبه: للوحي الذي يعلم الله به رسله وأنبياءَه مقامات، قال الله تعالى مبيِّنًا هذه المقامات: (وما كان لبشرٍ أن يكلمه الله إلاَّ وحيًا أومن وراء حجابٍ أو يرسل رسولًا فيوحي بإذنه ما يشاء إنَّه عليٌّ حكيم ٌ) [الشورى: 51] .
فالمقامات ثلاثة: الأولى: الإلقاء في رُوع النبي الموحى إليه، بحيث لا يمتري النبي في أنّ هذا الذي ألقي في قلبه من الله تعالى، كما جاء في صحيح ابن حبان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال: إنّ روح القدس نفث في رُوعي أن نفسًا لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله، وأجملوا في الطلب.
وذهب ابن الجوزي إلى أن المراد بالوحي في قوله: (إلَّا وحيًا) الوحي في المنام. وهذا الذي فسّر به ابن الجوزي المقام الأول داخل في الوحي بلا شك، فإنّ رؤيا الأنبياء حقٌ، ولذلك فإنَّ خليل الرحمن إبراهيم بادر إلى ذبح ولده عندما رأى في المنام أنّه يذبحه، وعدّ هذه الرؤيا أمرًا إلهيًّا، قال تعالى في إبراهيم وابنه إسماعيل: (فلمَّا بلغ معه السَّعي قال يا بنيَّ إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبتِ افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصَّابرين * فلمَّا أسلما وتلَّهُ للجبين * وناديناه أن يا إبراهيم * قد صدَّقت الرؤيا إنَّا كذلك نجزي المحسنين) [الصافات: 102- 105] .
وفي الحديث الذي يرويه البخاري ومسلم عن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - قالت: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في المنام، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح.
المقام الثاني: تكليم الله لرسله من وراء حجاب: وذلك كما كلَّم الله تعالى موسى عليه السلام، وذكر الله ذلك في أكثر من موضع في كتابه.... وكلم الله عبده ورسوله محمدًا -صلى الله عليه وسلم- عندما عرج به إلى السماء...
المقام الثالث: الوحي إلى الرسول بواسطة الملك: وهذا هو الذي يفقه من قوله تعالى: (أو يرسل رسولًا فَيُوحِيَ بإذنه ما يشاء) [الشورى: 51] وهذا الرسول هو جبريل، وقد يكون غيره وذلك في أحوال قليلة. انتهى
وإذا علمت صفة الوحي ومراتبه تبين لك يقينا أن النبي لا يمكن أن يشك فيما أتاه في كونه من الوحي المأمور بتبليغه، ومن قال من العلماء بأن النبي ليس له أن يجتهد، فإنه يجعل كل ما يتكلم به من الوحي، ومن قال إن له أن يجتهد فيما لم يوح إليه فيه، فإن الوحي يصوبه إن أخطأ، ويقره إن أصاب، كما هو مبسوط في كتب الأصول.
والنبي مع هذا موقن جازم بما يقوله، فإن كان وحيا فهو متيقن كونه كذلك، ولا يشتبه عليه الوحي بغيره، وإن كان اجتهادا منه فهو يعلم ذلك ويبينه لأصحابه، كما في قصة تأبير النخل المشهورة.
والله أعلم.