الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد ذكر بعض المفسرين أوجها في سر ذكر معاتبة أهل النار لجلودهم، دون ذكر معاتبتهم لسمعهم وأبصارهم.
جاء في حاشية الخفاجي على البيضاوي: وخصت الجلود دون السمع والبصر؛ لأنها أعجب إذ ليس شأنها الإدراك؛ بخلافهما.
وقيل: إنما خصت لأنها بمرأى منهم مشاهدة لا لما مرّ؛ لأنّ في الجلود قوّة مدركة أيضا وهي اللامسة، وهي مشتملة أيضاً على الذائقة، وكل منهما أهمّ وأعم، وهذا أيضاً يصلح وجهاً للتخصيص، وفيه تعكيس عليهم إذ تضرّروا مما يرجون منه أكمل النفع، ولا يخفى ما فيه. اهـ.
وقال ابن عاشور: وإنما قالوا لجلودهم: لم شهدتم علينا. دون أن يقولوه لسمعهم وأبصارهم؛ لأن الجلود مواجهة لهم يتوجهون إليها بالملامة. اهـ.
وأما ما يتعلق بسماع أهل النار وإبصارهم وكلامهم: فالأظهر أنهم يعاقبون في مبدأ الأمر بالصمم والعمى والبكم، ثم يرد الله تعالى إليهم أبصارهم ونطقهم وسمعهم، فيرون النار ويسمعون زفيرها، وينطقون بما حكى الله تعالى عنهم في كتابه في أكثر من موضع.
قال الأمين الشنقيطي: في آية "طه": قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا {طه:125}، وآية "الإسراء": وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا {الإسراء:97}، إشكال معروف. وهو أن يقال: إنهما قد دلتا على أن الكافر يحشر يوم القيامة أعمى، وزادت آية "الإسراء" أنه يحشر أبكم أصم أيضا، مع أنه دلت آيات من كتاب الله على أن الكفار يوم القيامة يبصرون ويسمعون ويتكلمون. كقوله تعالى: أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا.. الآية [19 38]، وقوله تعالى: ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها.. الآية [18 53]، وقوله تعالى: ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا.. الآية [32 12] إلى غير ذلك من الآيات. والجواب عن هذا الإشكال من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: واستظهره أبو حيان أن المراد بما ذكر من العمى، والصمم، والبكم حقيقته. ويكون ذلك في مبدأ الأمر، ثم يرد الله تعالى إليهم أبصارهم ونطقهم وسمعهم، فيرون النار ويسمعون زفيرها، وينطقون بما حكى الله تعالى عنهم في غير موضع.
الوجه الثاني: أنهم لا يرون شيئا يسرهم، ولا يسمعون كذلك، ولا ينطقون بحجة، كما أنهم كانوا في الدنيا لا يستبصرون، ولا ينطقون بالحق، ولا يسمعونه. وأخرج ذلك ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس، وروي أيضا عن الحسن؛ كما ذكره الألوسي، وغيره. وعلى هذا القول فقد نزل ما يقولونه ويسمعونه ويبصرونه منزلة العدم؛ لعدم الانتفاع به. كما أوضحنا في غير هذا الموضع. ومن المعلوم أن العرب تطلق لا شيء على ما لا نفع فيه. ألا ترى أن الله يقول في المنافقين: صم بكم عمي. الآية [2 18]، مع أنه يقول فيهم: فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد [33 19]، ويقول فيهم: وإن يقولوا تسمع لقولهم [63 4]، أي: لفصاحتهم وحلاوة ألسنتهم. ويقول فيهم: ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم [2 20]، وما ذلك إلا لأن الكلام ونحوه الذي لا فائدة فيه، كلاشيء: فيصدق على صاحبه أنه أعمى وأصم وأبكم، ومن ذلك قول قعنب بن أم صاحب:
صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا
وقول الآخر:
أصم عن الأمر الذي لا أريده وأسمع خلق الله حين أريد
وقول الآخر:
قل ما بدا لك من زور ومن كذب حلمي أصم وأذني غير صماء
ونظائر هذا كثيرة في كلام العرب من إطلاق الصمم على السماع الذي لا فائدة فيه. وكذلك الكلام الذي لا فائدة فيه، والرؤية التي لا فائدة فيها.
الوجه الثالث: أن الله إذا قال لهم: اخسئوا فيها ولا تكلمون [23 108]، وقع بهم ذلك العمى، والصمم، والبكم من شدة الكرب، واليأس من الفرج، قال تعالى: ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون [27 85]، وعلى هذا القول تكون الأحوال الخمسة مقدرة، أعني قوله في "طه": ونحشره يوم القيامة أعمى [20 125] ، وقوله فيها: لم حشرتني أعمى، وقوله في "الإسراء": ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما [17 97] ، وأظهرها عندي الأول. اهـ.
وأما سؤالك: (هل المذنبون أيضا أعداء الله ؟): فإن فساق الموحدين لا يصح إطلاق القولعنهم بأنهم أعداء الله، بل يقال: إن لهم من ولاية الله جل وعلا بقدر ما معهم من إيمان، ولهم من عداوة الله بقدر ما فيهم من عصيان ومخالفة وإعراض.
والله أعلم.