الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإن قوله سبحانه في أهل الجنة: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ {الأعراف:43}، يشير إلى أن المؤمنين في الدنيا لا تخلو قلوب بعضهم من غل تجاه بعضهم في الدنيا، فينزعه الله عنهم إذا دخلوا الجنة.
قال الطبري: يقول تعالى ذكره: وأذهبنا من صدور هؤلاء الذين وَصَف صفتهم، وأخبر أنهم أصحاب الجنة، ما فيها من حقد وغِمْرٍ وعَداوة كان من بعضهم في الدنيا على بعض، فجعلهم في الجنة إذا أدخلهموها على سُرُر متقابلين، لا يحسد بعضهم بعضًا على شيء خصَّ الله به بعضهم وفضّله من كرامته عليه، تجري من تحتهم أنهار الجنة. اهـ.
وقال البغوي: {ونزعنا} وأخرجنا، {ما في صدورهم من غل} من غش وعداوة كانت بينهم في الدنيا فجعلناهم إخوانا على سرر متقابلين لا يحسد بعضهم بعضا على شيء خص الله به بعضهم. {تجري من تحتهم الأنهار} روى الحسن عن علي رضي الله عنه قال: فينا والله أهل بدر نزلت: {ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين} . وقال علي رضي الله عنه أيضا: إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قال لهم الله عز وجل: {ونزعنا ما في صدورهم من غل} عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يخلص المؤمنون من النار، فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة، فوالذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله كان في الدنيا. اهـ. باختصار.
وقال الألوسي: وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ أي قلعنا ما في قلوبهم من حقد مخفي فيها وعداوة كانت بمقتضى الطبيعة لأمور جرت بينهم في الدنيا. أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن السدي قال: إن أهل الجنة إذا سيقوا إلى الجنة فبلغوها وجدوا عند بابها شجرة أصل ساقها عينان فيشربون من إحداهما فينزع ما في صدورهم من غل فهو الشراب الطهور، ويغتسلون من الأخرى فتجري عليهم نضرة النعيم فلن يشعثوا ولن يشحبوا بعدها أبدا.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال: بلغني أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يحبس أهل الجنة بعد ما يجوزون الصراط حتى يؤخذ لبعضهم من بعض ظلاماتهم في الدنيا فيدخلون الجنة وليس في قلوب بعض على بعض غل» وقيل: المراد طهرنا قلوبهم وحفظناها من التحاسد على درجات الجنة ومراتب القرب بحيث لا يحسد صاحب الدرجة النازلة صاحب الدرجة الرفيعة. وهذا في مقابلة ما ذكره سبحانه من لعن أهل النار بعضهم بعضا. وأيا ما كان فالمراد ننزع لأنه في الآخرة، إلا أن صيغة الماضي للإيذان بتحققه.
وقيل: إن هذا النزع إنما كان في الدنيا، والمراد عدم اتصافهم بذلك من أول الأمر إلا أنه عبر عن عدم الاتصاف به مع وجود ما يقتضيه حسب البشرية أحيانا بالنزع مجازا، ولعل هذا بالنظر إلى كمل المؤمنين كأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فإنهم رحماء بينهم يحب بعضهم بعضا كمحبته لنفسه، أو المراد إزالته بتوفيق الله تعالى قبل الموت بعد أن كان بمقتضى الطباع البشرية.
ويحتمل أن يخرج على الوجهين ما أخرجه غير واحد عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال في هذه الآية: إني لأرجو أن أكون أنا، وعثمان، وطلحة، والزبير منهم، ويقال على الثاني فيما وقع مما ينبئ بظاهره عن الغل. إنه لم يكن إلا عن اجتهاد إعلاء لكلمة الله تعالى، ولا يخفى بعد هذا المعنى وإن ساعده ظاهر الصيغة. اهـ.
وقال ابن عاشور: والتعبير عن المستقبل بلفظ الماضي للتنبيه على تحقق وقوعه، أي: وننزع ما في صدورهم من غل، وهو تعبير معروف في القرآن؛ كقوله تعالى: أتى أمر الله [النحل: 1] .
والنزع حقيقته قلع الشيء من موضعه، ونزع الغل من قلوب أهل الجنة: هو إزالة ما كان في قلوبهم في الدنيا من الغل عند تلقي ما يسوء من الغير، بحيث طهر الله نفوسهم في حياتها الثانية عن الانفعال بالخواطر الشرية التي منها الغل، فزال ما كان في قلوبهم من غل بعضهم من بعض في الدنيا، أي أزال ما كان حاصلا من غل وأزال طباع الغل التي في النفوس البشرية بحيث لا يخطر في نفوسهم.
والغل: الحقد والإحنة والضغن، التي تحصل في النفس عند إدراك ما يسوؤها من عمل غيرها، وليس الحسد من الغل بل هو إحساس باطني آخر. اهـ.
وبعد هذا: فإن وجود الغل بين بعض المؤمنين لا ينافي أن تكون قلوبهم سليمة، وصدورهم طاهرة، إذ كثيرا ما يقع الغل عن تأويل لا عن قصد سوء، ومنه ما يكون من مظلوم تجاه ظالمه، ومنه ما يتوب منه العبد أو يمحى عنه بحسنات ماحية ونحو ذلك.
ثم أهل الإيمان ليسوا معصومين من الذنوب الظاهرة، ولا مما ينافي الدرجات العالية مما يقع في النفوس البشرية من غل ونحوه، والعبرة في الحكم بسلامة القلب من السوء هو أن يكون ذلك غالب حاله السلامة من السوء، لا أن يكون قلبه مصمتا لا يعرض له شيء مما ينافي ذلك، فهذا شأن الملائكة لا شأن البشر.
والله أعلم.