الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فلا نرى المسألة تحتاج إلى مثل هذا التشقيق في الكلام! فالأمر أيسر من ذلك، فهناك فرق بين الطاعات والقرب المحضة، كالصلاة والأذان وتلاوة القرآن وتعليمه، وبين القرب غير المحضة، التي تكون محلا للثواب من ناحية، وفيها شبه بالعادات والمباحات من أمور المعاش من ناحية أخرى، كالرقية الشرعية، فهي من ناحية متعلقة بكتاب الله تعالى وتلاوته، ومن ناحية أخرى فيها تطبيب ومعالجة مرض، وهذا من أمور العادة لا العبادة.
ولذلك فرق من فرق من أهل العلم بين أخذ الأجرة على تعليم القرآن، وأخذها على الرقية به. وبذلك أجابوا عن التعارض الموهوم بين أحاديث الباب، قال المظهري في تفسيره: الرقية ليست قربة محضة، فجاز أخذ الأجرة عليها. اهـ. بتصرف يسير.
وقال ابن القيم في إعلام الموقعين: وسأله -صلى الله عليه وسلم- عبادةُ بن الصامت، فقال: رجل أهدى إلي قوسا ممن كنت أعلمه الكتاب والقرآن، وليست بمال، وأرمي عليها في سبيل الله؟ فقال: إن كنت تحب أن تطوق طوقا من نار فاقبلها. ولا ينافي هذا قوله: إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله. في قصة الرقية؛ لأن تلك جعالة على الطب، فطبه بالقرآن، فأخذ الأجرة على الطب لا على تعليم القرآن. وههنا منعه من أخذ الأجرة على تعليم القرآن، فإن الله تعالى قال لنبيه: { قل لا أسألكم عليه أجرا } ... فلا يجوز أخذ الأجرة على تبليغ الإسلام والقرآن. اهـ.
فإذا كان الأمر كذلك في الرقية، فما بالنا بالصور الثلاثة التي ذكرها السائل. فكلها ليست قُرَبَاً محضة، ولا قريبا من ذلك، بل لا يظهر فيها وجه التقرب إلا بالاحتساب! وبالتالي، فلا حرج في أخذ الأجرة عليها. ولا نظن أن تكون هذه الصور محلا للخلاف لمجرد تعلقها بعمل الخير، أو اتصالها بعلوم الشريعة. وإلا فلا نتصور خلافا في حل أخذ الأجرة للصناع الذين يبنون، ويجهزون مسجدا، فضلا عن مؤسسة أو مدرسة للعلوم الشريعة، فضلا عمن يعمل في إدارتها أو نظافتها. وكذلك من يبيع الطعام لدار الأيتام، أو من يقوم بتدريس اللغة العربية. وأظهر من ذلك في المثال: جعل العاملين على الزكاة من قِبَل السلطان مصرفا من مصارف الزكاة، مع كون هذا العمل متعلقا بركن من أركان الإسلام - وهو الزكاة - والاحتساب فيه متبادر وميسور.
والله أعلم.