الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فتقسيم الرؤيا إلى ثلاثة أنواع، والتفريق بين الرؤيا التي هي بشرى من الله، وبين الرؤيا التي هي من حديث النفس: هو الثابت في السنة، وراجع في ذلك الفتوى: 132181.
قال البغوي في شرح السنة: قوله صلى الله عليه وسلم: «الرؤيا ثلاثة»، فيه بيان أن ليس كل ما يراه الإنسان في منامه يكون صحيحًا، ويجوز تعبيره، إنما الصحيح منها ما كان من الله عز وجل يأتيك به ملك الرؤيا من نسخة أم الكتاب، وما سوى ذلك أضغاث أحلام، لا تأويل لها، وهي على أنواع: قد يكون من فعل الشيطان يلعب بالإنسان، أو يريه ما يحزنه ... وقد يكون ذلك من حديث النفس، كمن يكون في أمر، أو حرفة يرى نفسه في ذلك الأمر، والعاشق يرى معشوقه، ونحو ذلك ... اهـ.
وقال ابن العربي في عارضة الأحوذي بشرح الترمذي: تقسيمه صلى الله عليه وسلم الرؤيا على ثلاثة أقسام قسمة صحيحة، مستوفية للمعاني، وهي عند الفلاسفة على أربعة أقسام بحسب الطبائع الأربع ... والصحيح ما قاله النبي عليه السلام، وهي الرؤيا: البشرى إما بمحبوب، أو بمكروه. وأما تحزين من الشيطان يضرب له الأمثال المكروهة الكاذبة ليحزنه ... وأما خطرات الوساوس، وحديث النفوس، فيجري على غير قصد، ولا عقد في المنام، جريانها في اليقظة ... اهـ.
وعن أبي قتادة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الرؤيا على ثلاث منازل: فمنها ما يحدث المرؤ نفسه، وليست بشيء، ومنها ما يكون من الشيطان .. ومنها بشرى من الله. رواه إسحاق بن راهويه في مسنده، كما عزاه إليه ابن حجر في المطالب العالية، والبوصيري في إتحاف الخيرة المهرة.
فحديث النفس ليس بشيء؛ ولذلك قال ابن حجر في الفتح: وأما ما يرى أحيانًا مما يعجب الرائي، ولكنه لا يجده في اليقظة، ولا ما يدل عليه، فإنه يدخل في قسم آخر، وهو ما كان الخاطر به مشغولًا قبل النوم، ثم يحصل النوم فيراه، فهذا قسم لا يضر ولا ينفع. اهـ.
ولكن مع ذلك، فلا مانع أحيانًا من مصادفة الرؤيا التي هي من الله لحديث المرء نفسه بشيء يشغله، فيجتمع حديث النفس مع الرؤيا؛ وحينئذ فالاعتبار في التأويل للرؤيا، لا لحديث النفس، وعلى هذا يحمل ما جاء في الفتوى: 152965.
وأما السؤال الثاني، فجوابه أن الرؤيا الصادقة لا يلزم أن تحصل كما رئيت تمامًا! ولكن يقع تأويلها، كما هو حال الرؤيا المشهورة لنبي الله يوسف -عليه السلام-، حيث قال: إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ {يوسف: 4}، فكان تأويل الكواكب أخوته، وتأويل الشمس والقمر أبوه وأمه، قال تعالى: وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا {يوسف:100}، وكذلك رؤيا الملك للبقرات السبع والسنابل السبع، وانظر الفتوى: 98741.
وأما الجزء الثالث من السؤال، فجوابه: أن الرؤيا الصادقة لا تقتصر على ما يحب المرء، بل قد يرى ما يكره؛ إنذارًا، أو إعلامًا بشيء من الغيب، أو غير ذلك، ومن هذا: رؤيا الخليل ذبح ولده إسماعيل، وقد سبق من كلام ابن العربي أن البشرى تكون إما بمحبوب، أو بمكروه، وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: استثنى الداودي من عموم قوله: "إذا رأى ما يكره" ما يكون في الرؤيا الصادقة؛ لكونها قد تقع إنذارًا كما تقع تبشيرًا، وفي الإنذار نوع ما يكرهه الرائي، فلا يشرع إذا عرف أنها صادقة ما ذكره من الاستعاذة، ونحوها. واستند إلى ما ورد من مرائي النبي صلى الله عليه وسلم، كالبقر التي تنحر، ونحو ذلك. ويمكن أن يقال: لا يلزم من ترك الاستعاذة في الصادقة أن لا يتحول عن جنبه، ولا أن لا يصلي، فقد يكون ذلك سببًا لدفع مكروه الإنذار، مع حصول مقصود الإنذار. وأيضًا فالمنذورة قد ترجع إلى معنى المبشرة؛ لأن من أنذر بما سيقع له، ولو كان لا يسره أحسن حالًا ممن هجم عليه ذلك، فإنه ينزعج ما لا ينزعج من كان يعلم بوقوعه، فيكون ذلك تخفيفًا عنه، ورفقًا به. قال الحكيم الترمذي: الرؤيا الصادقة أصلها حق تخبر عن الحق، وهو بشرى، وإنذار، ومعاتبة؛ لتكون عونًا لما ندب إليه ... اهـ.
وأشار بقوله: "استند إلى ما ورد من مرائي النبي صلى الله عليه وسلم، كالبقر التي تنحر" إلى حديث ابن عباس، قال: تنفل رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه ذا الفقار يوم بدر، وهو الذي رأى فيه الرؤيا يوم أحد، فقال: "رأيت في سيفي ذي الفقار فلًّا، فأولته فلًّا يكون فيكم، ورأيت أني مردف كبشًا، فأولته كبش الكتيبة، ورأيت أني في درع حصينة، فأولتها المدينة، ورأيت بقرا تذبح، فبقر -والله- خير، فبقر -والله خير- "، فكان الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه أحمد، والترمذي، وصححه الألباني. وقد جاء تأويل البقر، كما في مرسل عروة بن الزبير: تَأَوَّلْت الْبَقَرَ الَّتِي رَأَيْتُ بَقْرًا يَكُون فِينَا، قَالَ: فَكَانَ ذَلِكَ مَنْ أُصِيبَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ.
والله أعلم.