الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فالحافظ أبو محمد ابن حزم -رحمه الله- أجلّ قدرًا من أن يأتي بهذا الهذيان، ولا يقول أحد من المسلمين: إن عدّ البسملة آية من الفاتحة كفر -عياذًا بالله من هذا القول-.
وعدّها آية هو قراءة طائفة من القراء، ومذهب الإمام الشافعي -رحمه الله-.
وقد بينا أنه لا إشكال في هذا الخلاف، ولا يشكل هذا على تواتر القرآن، وذلك في فتوانا: 396946، فانظرها.
وأما ابن حزم -رحمه الله- فإنه يرى أن الخلاف في إثبات البسملة وعدّها آية سائغ، ويرى أن من قرأ بقراءة من يثبتها، فيلزمه أن يثبتها، ومن قرأ بقراءة من لا يثبتها، فهو مخير: إن شاء قرأها، وإن شاء لم يقرأها، وهاك كلامه بحروفه؛ ليتبين لك بطلان ما نقلته عنه، وأنه كذب مختلق، قال ابن حزم -رحمه الله- في المحلى: وَمَنْ كَانَ يَقْرَأُ بِرِوَايَةِ مَنْ عَدَّ مِنْ الْقُرَّاءِ "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" آيَةً مِنْ الْقُرْآنِ، لَمْ تُجْزِهِ الصَّلَاةُ إلَّا بِالْبَسْمَلَةِ، وَهُمْ: عَاصِمُ بْنُ أَبِي النَّجُودِ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
وَمَنْ كَانَ يَقْرَأُ بِرِوَايَةِ مَنْ لَا يَعُدُّهَا آيَةً مِنْ أُمِّ الْقُرْآنِ: فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يُبَسْمِلَ، وَبَيْنَ أَنْ لَا يُبَسْمِلَ، وَهُمْ: ابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنْ نَافِعٍ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُبَسْمِلُ الْمُصَلِّي إلَّا فِي صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ الشَّهْرِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تُجْزِئُ صَلَاةٌ إلَّا بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. قَالَ عَلِيٌّ: وَأَكْثَرُوا مِنْ الِاحْتِجَاجِ بِمَا لَا حُجَّةَ لِأَيٍّ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ فِيهِ...
ثم قال بعد كلام مبينًا مذهبه في المسألة: وَالْحَقُّ مِنْ هَذَا: أَنَّ النَّصَّ قَدْ صَحَّ بِوُجُوبِ قِرَاءَةِ أُمِّ الْقُرْآنِ فَرْضًا، وَلَا يَخْتَلِفُ اثْنَانِ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فِي أَنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ حَقٌّ كُلُّهَا مَقْطُوعٌ بِهِ، مُبَلَّغَةٌ كُلُّهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، عَنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِنَقْلِ الْمَلَوَانِ، فَقَدْ وَجَبَ؛ إذْ كُلُّهَا حَقٌّ أَنْ يَفْعَلَ الْإِنْسَانُ فِي قِرَاءَتِهِ أَيَّ ذَلِكَ شَاءَ؛ وَصَارَتْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" فِي قِرَاءَةٍ صَحِيحَةٍ آيَةً مِنْ أُمِّ الْقُرْآنِ، وَفِي قِرَاءَةٍ صَحِيحَةٍ لَيْسَتْ آيَةً مِنْ أُمِّ الْقُرْآنِ -: مِثْلُ لَفْظَةِ "هُوَ" فِي قَوْله تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ: {هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [لقمان:26]، وَكَلَفْظَةِ "مِنْ" فِي قَوْله تَعَالَى: {مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [التوبة:89] فِي سُورَةِ (بَرَاءَةٌ) عَلَى رَأْسِ الْمِائَةِ آيَةٍ - هُمَا مِنْ السُّورَتَيْنِ فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِهِمَا، وَلَيْسَتَا مِنْ السُّورَتَيْنِ فِي قِرَاءَةِ مَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِهِمَا.
وَمِثْلُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ وَارِدٌ فِي ثَمَانِيَةِ مَوَاضِعَ، ذَكَرْنَاهَا فِي كِتَابِ الْقِرَاءَاتِ، وَآيَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَسَائِرُ ذَلِكَ مِنْ الْحُرُوفِ يَطُولُ ذِكْرُهَا، كَزِيَادَةِ مِيمِ "مِنْهَا" فِي سُورَةِ الْكَهْفِ. وَفِي {حم} [الشورى:1] {عسق} [الشورى:2]: {فَبِمَا كَسَبَتْ} [الشورى:30]، وَهَاءَاتٍ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ فِي {يس} [يس:1]: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ} [يس:69]، وَفِي الزُّخْرُفِ {تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ} [الزخرف:71] وَ{لَمْ يَتَسَنَّهْ} [البقرة:259]، وَغَيْرُ ذَلِكَ.
وَالْقُرْآنُ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، كُلُّهَا حَقٌّ، وَهَذَا كُلُّهُ حَقٌّ، وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ تِلْكَ الْأَحْرُفِ، بِصِحَّةِ الْإِجْمَاعِ الْمُتَيَقَّنِ عَلَى ذَلِكَ، وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. انتهى كلامه -رحمه الله-.
والله أعلم.