الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد جاءت الشريعة بالأمر بحفظ النفوس من الهلاك والضرر عموما، وجاءت نصوص خاصة بتوقي العدوى.
ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: لاَ يُورِدَنَّ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ. وفيهما أيضا من حديث عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- أنه قال سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ، فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا، فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ. وهذا الحديث أصل لما هو معروف الآن بالحجر الصحي.
وفي صحيح البخاري من حديث أبي هُرَيْرَةَ، أنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لاَ عَدْوَى وَلاَ طِيَرَةَ، وَلاَ هَامَةَ وَلاَ صَفَرَ، وَفِرَّ مِنَ المَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأَسَدِ. وقوله: (لا عدوى) أي لا عدوى مؤثرة بذاتها وطبعها، وإنما التأثير بتقدير الله عز وجل، وما يجريه من تأثير الأسباب. والعدوى سراية المرض من المصاب إلى غيره.
ولا يخفى على أحد الْيَوْمَ أمر هذه الجائحة، والوباء العالمي الذي قضى على عشرات الألوف من البشر، ويهدد الملايين منهم، فكان من مقتضيات الشريعة الأخذ بأسباب الوقاية منه، ودفع المرض وتداعياته عن الأنفس بكل الوسائل المشروعة.
ومن هذه الوسائل النافعة -بإذن الله تعالى - بحسب ما قرره المختصون منع الاجتماع، والاحتكاك بين الناس.
وفِي هذه السبيل أغلقت الأسواق والجامعات والمدارس والمنتزهات والشركات، وعزلت دول ومدن، ونتج عن ذلك أضرار غير مسبوقة في العالم لما يَرَوْن أن هذه الوسيلة ناجعة في منع أن يحصد الوباء أرواح البشر.
والمساجد - بحكم مساحتها، وهيئة اجتماع من يرتادونها، وتقارب بعضهم من بعض - مظنة قوية لانتقال العدوى، وانتشار الوباء بين المصلين؛ كما يقول الأطباء.
ولما كان الامر كذلك، فلا مناص من القول بتعليق الجمعة والجماعة، حتى يكشف الله هذه الغمة، ويرفع عن عباده هذا الوباء، بل قد يصل الأمر إلى الوجوب بحسب استفحال الوباء، وما يقرره المختصون.
وأدلة ذلك كثيرة، منها تحريم التسبب في الأضرار بالنفس أو الغير، ومن القواعد الفقهية العظيمة قاعدة ((لا ضرر و لا ضرار))، فهذه القاعدة تعتبر من القواعد الكبرى التي يعتمد عليها الفقهاء في تقرير الأحكام الشرعية للحوادث والمسائـل المستجـدة، وأصل هذه القاعدة قوله -صلى الله عليه وسلم-: لا ضرر ولا ضرار. وهو حديث أخرجه مالك في الموطأ عن عمرو بن يحيى عن أبيه مرسلاً.
وأخرجه الحاكم في المستدرك والبيهقي، والدارقطني من حديث أبي سعيد الخدري، وأخرجه ابن ماجه من حديث ابن عباس وعبادة بن الصامت ـ رضي الله عنهم-.
ومعنى الحديث أنه لا ضرر في الشرع، هو: إلحاق مفسدة بالغير مطلقاً. وأنه لا ضرار فيه، هو: مقابلة الضرر بالضرر.
وهو يفيد تحريم الضرر مطلقا بشتى أنواعه؛ لأنه نوع من أنواع الظلم؛ ويشمل ذلك دفعه قبل وقوعه بالتدابير والإجراءات اللازمة، ورفعه بعد وقوعه بالطرق الممكنة.
ومن القواعد الفقهية التي يرتكز عليها هذا الحكم أيضا قاعدة ((درء المفاسد أوْلى من جلب المنافع))، فإذا تعارضت مفسدة ومصلحة قُدِّمَ رفع المفسدة؛ لأن اعتناء الشرع بالمنهيات أشد من اعتنائه بالمأمورات، والمراد بدرء المفاسد دفعها قبل وقوعها ورفعها، إن وقعت.
ودليل هذه القاعدة قوله -صلى الله عليه وسلم-: ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فائتوا منه ما استطعتم.
ومع ما تقدم من أدلة وقواعد شرعية في المسألة - محل السؤال - فان الأمر يزداد تأكيدا إذا صدر به قرار من ولاة أمور المسلمين يقضي بإغلاق المساجد للحيلولة دون انتشار الوباء، ومحاصرته، وتعليق صلاة الجمعة والجماعة إلى أن يزول الضرر. فبذلك القرار يصير الأمر واجبا في حق العموم، لما تقرر من أن ولي الأمر إذا أمر بما فيه مصلحة معتبرة، وله وجه شرعي، وجبت طاعته ظاهرا وباطنا.
وإذا اختلف الناس في هذه المصلحة، وكان اختيار ولي الأمر بناء على توصيات أهل الاختصاص - كما هو الشأن في هذه النازلة - تعينت طاعته، وامتثال أمره.
يقول السرخسي في السير الكبير: إنْ أمرهم بشيءٍ لا يدرون أينتفعون به أَمْ لا، فعليهم أن يُطيعوه، لأنَّ فرْضيَّةَ الطَّاعة ثابتةٌ بنصٍّ مقطوعٍ به. وما تردَّد لهم من الرَّأي في أنَّ ما أُمر به ُ منتفعٌ أو غير مُنتفعٍ به لا يصلح مُعارضا للنَّصِّ المقطوع. اهـ
هذا ونؤكد على تنبيه في غاية الأهمية، ألا وهو أن على الدولة مراقبةَ الوضع بدقة، وتقويمَه لحظة بلحظة، ومراجعةَ التقارير المتعلقة بكل جانب من جوانبه، فمتى رأت أنه بالإمكان عودةُ المسلمين إلى مساجدهم وإقامةُ الجمع والجماعات فيها، وجب عليها أن تبادر إلى فتحها، وتمكينِ الناس من الصلاة فيها، ولو كانت مناح أخرى من الحياة العامة ما زالت معطلة.
والله أعلم.