الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن كل ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أو نهى عنه، فهو بوحي من الله، كما قال تعالى: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى {النجم:3، 4}.
وقد أخرج الخطيب في الكفاية، عن التابعي حسان بن عطية، قال: كان جبريل ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسنة كما ينزل عليه بالقرآن, يعلمه إياها كما يعلمه القرآن. اهـ.
وقال ابن حزم في الإحكام في أصول الأحكام: قال الله عز وجل عن نبيه صلى الله عليه وسلم: {وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى}، وقال تعالى آمرا لنبيه عليه الصلاة والسلام أن يقول: {قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين}، وقال تعالى: {إنا نحن نزلنا لذكر وإنا له لحافظون}، وقال تعالى: {بالبينات ولزبر وأنزلنا إليك لذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون}.
فصح أن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كله في الدين، وحي من عند الله عز وجل، لا شك في ذلك. اهـ.
وفي الحديث عن المقدام بن معدي كرب، يقول: حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر أشياء، ثم قال: يوشك أحدكم أن يكذبني وهو متكئ على أريكته، يحدث بحديثي، فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثل ما حرم الله. أخرجه أحمد في المسند، وصححه الألباني.
وبناء على ما تقدم: فلا إشكال في وصف ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله سبحانه قد نهى عنه -وإن لم يُنص عليه في القرآن الكريم-، لأن السنة وحي من الله.
وأما نسبة أقوال العلماء إلى حكم الله سبحانه: فلا يجوز إلا فيما كان حكما يقينيا مبينا على نصوص محكمة، وأما الاجتهادات والآراء، فلا يصح وصفها بأنها حكم لله.
قال ابن القيم: وقوله: "«فإن سألوك على أن تنزلهم على حكم الله، فلا تنزلهم على حكم الله؛ فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا» " فيه حجة ظاهرة على أنه لا يسوغ إطلاق حكم الله على ما لا يعلم العبد أن الله حكم به يقينا من مسائل الاجتهاد، كما قال بعض السلف: ليتق أحدكم أن يقول: أحل الله كذا، أو حرم كذا، فيقول الله له: كذبت، لم أحل كذا، ولم أحرمه. اهـ. من أحكام أهل الذمة.
وقال في أعلام الموقعين: لا يجوز للمفتي أن يشهد على الله ورسوله بأنه أحل كذا، أو حرمه، أو أوجبه، أو كرهه إلا لما يعلم أن الأمر فيه كذلك، مما نص الله ورسوله على إباحته، أو تحريمه، أو إيجابه، أو كراهته.
وأما ما وجده في كتابه الذي تلقاه عمن قلده دينه، فليس له أن يشهد على الله ورسوله به، ويغر الناس بذلك، ولا علم له بحكم الله ورسوله.
قال غير واحد من السلف: ليحذر أحدكم أن يقول: أحل الله كذا، أو حرم الله كذا، فيقول الله له: كذبت، لم أحل كذا، ولم أحرمه.
وثبت في صحيح مسلم من حديث بريدة بن الحصيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «وإذا حاصرت حصنا فسألوك أن تنزلهم على حكم الله ورسوله، فلا تنزلهم على حكم الله ورسوله؛ فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا، ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك».
وسمعت شيخ الإسلام يقول: حضرت مجلسا فيه القضاة وغيرهم، فجرت حكومة حكم فيها أحدهم بقول زفر، فقلت له: ما هذه الحكومة؟ فقال: هذا حكم الله، فقلت له: صار قول زفر هو حكم الله الذي حكم به وألزم به الأمة؟ قل: هذا حكم زفر، ولا تقل هذا حكم الله، أو نحو هذا من الكلام. اهـ.
وأما كون الكذب على الله سبحانه والقول في دينه بغير علم، من أكبر الكبائر، فهذا أمر قطعي يقيني، قال تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ {الأعراف:33}.
قال ابن القيم: فرتب المحرمات أربع مراتب، وبدأ بأسهلها وهو الفواحش، ثم ثنى بما هو أشد تحريما منه وهو الإثم والظلم، ثم ثلث بما هو أعظم تحريما منهما وهو الشرك به سبحانه، ثم ربع بما هو أشد تحريما من ذلك كله وهو القول عليه بلا علم، وهذا يعم القول عليه سبحانه بلا علم في أسمائه وصفاته وأفعاله، وفي دينه وشرعه. اهـ. من أعلام الموقعين.
وقال تعالى: قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ {يونس:69}، وقال سبحانه: وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ {الزمر:60}.
بل القول على الله بلا علم من أصول المحرمات التي اتفقت الشرائع كلها على تحريمها تحريما مطلقا، لا يباح بحال، لا لضرورة، ولا غيرها.
قال ابن تيمية: المحرمات قسمان:
"أحدهما" ما يقطع بأن الشرع لم يبح منه شيئا لا لضرورة ولا لغير ضرورة: كالشرك والفواحش، والقول على الله بغير علم. والظلم المحض، وهي الأربعة المذكورة في قوله تعالى: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون}.
فهذه الأشياء محرمة في جميع الشرائع، وبتحريمها بعث الله جميع الرسل، ولم يبح منها شيئا قط، ولا في حال من الأحوال. ولهذا أنزلت في هذه السورة المكية، ونفي التحريم عما سواها؛ فإنما حرمه بعدها كالدم والميتة ولحم الخنزير حرمه في حال دون حال، وليس تحريمه مطلقا. اهـ. من مجموع الفتاوى.
وعليه: فلا إشكال في القول بأن الله حكم، أو جعل القول عليه بلا علم، من أكبر الكبائر.
والله أعلم.