الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد ذكر الله تعالى صفات عباد الرحمن في سورة الفرقان, ثم أتبعها بقوله: أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا {الفرقان:75}.
كما ذكر بعض صفات المؤمنين في بداية سورة المؤمنين، ثم قال بعدها: أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ {المؤمنون:10}.
والذي يظهر من كلام المفسرين، أن الثواب المذكور في هاتين الآيتين، مرتب على الاتصاف بجميع تلك الأوصاف الواردة قبل اسم الإشارة.
وهذا الأسلوب قد ورد في بعض الآيات الأخرى، كما سترى إن شاء الله تعالى.
يقول ابن كثير في تفسيره، بعد ذكر صفات عباد الرحمن: لما ذكر تعالى من أوصاف عباده المؤمنين ما ذكر من [هذه] الصفات الجميلة، والأفعال والأقوال الجليلة -قال بعد ذلك كله: {أولئك} أي: المتصفون بهذه {يجزون} أي: يوم القيامة {الغرفة} وهي الجنة. اهـ.
وقال ابن عاشور في التحرير والتنوير: والمراد بـ "عباد الرحمن" بادئ ذي بدء، أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالصفات الثمان التي وصفوا بها في هذه الآية، حكاية لأوصافهم التي اختصوا بها.
وإذ قد أجريت عليهم تلك الصفات في مقام الثناء والوعد بجزاء الجنة، عُلم أن من اتصف بتلك الصفات موعود بمثل ذلك الجزاء. وقد شرفهم الله بأن جعل عنوانهم عباده، واختار لهم من الإضافة إلى اسمه اسم الرحمن؛ لوقوع ذكرهم بعد ذكر الفريق الذين قيل لهم: اسجدوا للرحمن. اهـ.
وقال القرطبي في تفسيره: قوله تعالى: أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا {الفرقان:75}:
أولئك" خبرُ " وعبادُ الرحمن" في قول الزجاج على ما تقدم، وهو أحسن ما قيل فيه. وما تخلل بين المبتدأ وخبره أوصافهم من التحلي والتخلي، وهي إحدى عشرة: التواضع، والحلم، والتهجد، والخوف، وترك الإسراف والإقتار، والنزاهة عن الشرك، والزنى والقتل، والتوبة وتجنب الكذب، والعفو عن المسيء، وقبول المواعظ، والابتهال إلى الله. اهـ
وقال الشوكاني في تفسيره، تعقيبا على صفات المؤمنين: ثم مدح سبحانه هؤلاء فقال: أولئك هم الوارثون، أي: الأحقاء بأن يسموا بهذا الاسم دون غيرهم. اهـ.
وفي تفسير البيضاوي: أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (11).
أُولئِكَ الجامعون لهذه الصفات. هُمُ الْوارِثُونَ الأحقاء بأن يسموا وُرَّاثاً دون غيرهم. اهـ.
ومن الأمثلة زيادة على ما ذكره السائل، ما ذكره ابن عاشور في التحرير والتنوير تعليقا على صفات المتقين الواردة في بداية سورة البقرة: فقوله: "أولئك على هدى" جملة ٌمستأنفة استئنافا بيانيا؛ لأن السامع إذا سمع ما تقدم من صفات الثناء عليهم، ترقب فائدة تلك الأوصاف، واسم الإشارة هنا حل محل ذكر ضميرهم، والإشارة أحسن منه وقعا؛ لأنها تتضمن جميع أوصافهم المتقدمة. اهـ.
وقال ابن كثير في تفسير سورة البقرة: أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {البقرة:5}.
يقول الله تعالى: {أولئك} أي: المتصفون بما تقدم: من الإيمان بالغيب، وإقام الصلاة، والإنفاق من الذي رزقهم الله. والإيمان بما أنزل الله إلى الرسول ومن قبله من الرسل، والإيقان بالدار الآخرة، وهو يستلزم الاستعداد لها من العمل بالصالحات وترك المحرمات. اهـ.
وقال الشوكاني في تفسيره: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ {المؤمنون:60-61 }.
والإشارة بقوله: "أولئك " إلى المتصفين بهذه الصفات، ومعنى يسارعون في الخيرات يبادرون بها. اهـ.
وفي تفسير ابن كثير: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ {الأنفال 2-4}.
وقوله {أولئك هم المؤمنون حقا} أي: المتصفون بهذه الصفات هم المؤمنون حق الإيمان. اهـ.
وقال أيضا: وقوله: {أولئك أصحاب الميمنة}. أي: المتصفون بهذه الصفات من أصحاب اليمين. اهـ.
والله أعلم.