الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا تعارض بين الحزن الذي يقع في القلب رحمة بالمخلوق وشفقة عليه، وبين الرضا بقضاء الله وتدبيره، والرضا به سبحانه ربا.
وبكاء النبي صلى الله عليه وسلم يوم مات إبراهيم، وبكاء يعقوب عليه السلام على فقد يوسف، وحزن النبي صلى الله عليه وسلم لمقتل أصحابه، وغير ذلك هو من هذا الباب.
فإنه حزن رحمة للمخلوق وشفقة عليه، فوفى مقام الرحمة بالمخلوق حقه، مع توفيته مقام الرضا بالقدر حقه.
يوضح هذا المعنى العلامة ابن القيم -رحمه الله- فيقول: وَسَنَّ لِأُمَّتِهِ الْحَمْدَ وَالِاسْتِرْجَاعَ، وَالرِّضَى عَنِ اللَّهِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُنَافِيًا لِدَمْعِ الْعَيْنِ وَحُزْنِ الْقَلْبِ، وَلِذَلِكَ كَانَ أَرْضَى الْخَلْقِ عَنِ اللَّهِ فِي قَضَائِهِ، وَأَعْظَمَهُمْ لَهُ حَمْدًا، وَبَكَى مَعَ ذَلِكَ يَوْمَ مَوْتِ ابْنِهِ إِبْرَاهِيمَ رَأْفَةً مِنْهُ، وَرَحْمَةً لِلْوَلَدِ، وَرِقَّةً عَلَيْهِ، وَالْقَلْبُ مُمْتَلِئٌ بِالرِّضَى، عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَشُكْرِهِ، وَاللِّسَانُ مُشْتَغِلٌ بِذِكْرِهِ وَحَمْدِهِ. وَلَمَّا ضَاقَ هَذَا الْمَشْهَدُ وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ عَلَى بَعْضِ الْعَارِفِينَ يَوْمَ مَاتَ وَلَدُهُ، جَعَلَ يَضْحَكُ، فَقِيلَ لَهُ: أَتَضْحَكُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ؟ قَالَ: ( «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَضَى بِقَضَاءٍ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَرْضَى بِقَضَائِهِ» ) فَأَشْكَلَ هَذَا عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَقَالُوا: كَيْفَ يَبْكِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ مَاتَ ابْنُهُ إِبْرَاهِيمُ وَهُوَ أَرْضَى الْخَلْقِ عَنِ اللَّهِ، وَيَبْلُغُ الرِّضَى بِهَذَا الْعَارِفِ إِلَى أَنْ يَضْحَكَ.
فَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابن تيمية يَقُولُ: هَدْيُ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَكْمَلَ مِنْ هَدْيِ هَذَا الْعَارِفِ، فَإِنَّهُ أَعْطَى الْعُبُودِيَّةَ حَقَّهَا، فَاتَّسَعَ قَلْبُهُ لِلرِّضَى عَنِ اللَّهِ، وَلِرَحْمَةِ الْوَلَدِ، وَالرِّقَّةِ عَلَيْهِ، فَحَمِدَ اللَّهَ، وَرَضِيَ عَنْهُ فِي قَضَائِهِ، وَبَكَى رَحْمَةً وَرَأْفَةً، فَحَمَلَتْهُ الرَّأْفَةُ عَلَى الْبُكَاءِ، وَعُبُودِيَّتُهُ لِلَّهِ، وَمَحَبَّتُهُ لَهُ عَلَى الرِّضَى وَالْحَمْدِ.
وَهَذَا الْعَارِفُ ضَاقَ قَلْبُهُ عَنِ اجْتِمَاعِ الْأَمْرَيْنِ، وَلَمْ يَتَّسِعْ بَاطِنُهُ لِشُهُودِهِمَا وَالْقِيَامِ بِهِمَا، فَشَغَلَتْهُ عُبُودِيَّةُ الرِّضَى عَنْ عُبُودِيَّةِ الرَّحْمَةِ وَالرَّأْفَةِ. انتهى.
وبهذا البيان المتين يتضح لك المقام، وأن وجود الحزن من بعض الجهات لا ينافي الرضا بما قدره الله وقضاه.
وأن الحزن على ما يصيب المسلمين والتألم لهم شيء، والرضا بقضاء الله شيء آخر، وكلاهما من أنواع العبودية التي شرعت للعباد.
والله أعلم.