الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فالوالدان مفطوران على محبة أولادهما، ومهما ظهر منهما من الشدة عليهم في بعض الأحوال؛ فالأصل أنّ وراء ذلك حرص الوالدين على الخير لأولادهم، وليس كما يتوهم بعض الأولاد أن وراء ذلك عدم المحبة، أو الرغبة في التسلّط والإذلال.
وإذا وقع من الوالدين ظلم لبعض الأولاد، أو تقصير في حقّهم؛ فكل ذلك لا يسقط حقّهما عليهم في البِرّ، والمصاحبة بالمعروف؛ فإن الله قد أمر بالمصاحبة بالمعروف للوالدين المشركين الذين يأمران ولدهما بالشرك، قال تعالى: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا {لقمان:15}.
واعلم أنّ المعاونة في أعمال المنزل، ليست عارًا يخجل منه الرجل، أو يشعر أنّه منافٍ لرجولته، وما خُلِق من أجله، بل هي عمل صالح، وهدي نبوي، فهذا أكمل الرجال وسيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم كان يعاون أهله في بيته، ففي صحيح البخاري عَنِ الأَسْوَدِ، قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُ فِي بَيْتِهِ؟ قَالَتْ: «كَانَ يَكُونُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ -تَعْنِي خِدْمَةَ أَهْلِهِ-، فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلاَةُ، خَرَجَ إِلَى الصَّلاَةِ».
وفي مسند أحمد عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قِيلَ لِعَائِشَةَ: مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُ فِي بَيْتِهِ؟ قَالَتْ: "كَمَا يَصْنَعُ أَحَدُكُمْ: يَخْصِفُ نَعْلَهُ، وَيُرَقِّعُ ثَوْبَهُ".
وعلى أية حال؛ فإنّ لوالديك عليك حقًّا؛ فلا يجوز لك هجرهما بالكلية؛ فإن ذلك من العقوق المحرم.
واعلم أن الابن إذا بلغ الرشد، فله أن ينفرد بالإقامة وحده، لكن لا يهجر والديه، قال ابن قدامة -رحمه الله- في المغني: فَأَمَّا الْبَالِغُ الرَّشِيدُ، فَلَا حَضَانَةَ عَلَيْهِ، وَإِلَيْهِ الْخِيرَةُ فِي الْإِقَامَةِ عِنْدَ مَنْ شَاءَ مِنْ أَبَوَيْهِ. فَإِنْ كَانَ رَجُلًا، فَلَهُ الِانْفِرَادُ بِنَفْسِهِ، لِاسْتِغْنَائِهِ عَنْهُمَا، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَنْفَرِدَ عَنْهُمَا، وَلَا يَقْطَعَ بِرَّهُ عَنْهُمَا. انتهى.
والذي ننصحك به أن ترجع إلى والديك.
وإذا كان منهما إساءة في معاملتك، أو إيذاء لك بغير حق؛ فوسِّطْ بعض الأقارب، أو غيرهم من الصالحين ليكلموهما في ذلك حتى يحسنا إليك.
وإذا لم يكن هناك سبيل لتجنب الأذى، إلا بترك البيت؛ فانتقل إلى بعض الأقارب الصالحين.
وإن لم يكن، فابحث عن صحبة صالحة تقيم معهم، يحفظون عليك دِينك، ويجنّبونك الضياع في تلك البلاد.
ولا تقطع والديك أبدًا، ولكن أحسن إليهما.
والله أعلم.