الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فحديث: لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه. قد رواه أحمد والترمذي وابن ماجه، وقال الترمذي: حسن غريب.
والحديث لا إشكال فيه، بل هو متوافق مع قواعد الشرع، فإن الشرع أمر المؤمن أن يستعفي ما أمكنه، وألا يتعرض للبلاء باختياره، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: لا تتمنوا لقاء العدو، وسلو الله العافية وإذا لقيتموهم فاصبروا. رواه البخاري من حديث عبد الله بن أبي أوفى -رضي الله عنه-، وكما ورد في غير ما حديث الأمر بسؤال الله العافية.
قال الحافظ ابن حجر في الفتح ما عبارته: قَالَ ابن بَطَّالٍ: حِكْمَةُ النَّهْيِ أَنَّ الْمَرْءَ لَا يَعْلَمُ مَا يؤول إِلَيْهِ الْأَمْرُ، وَهُوَ نَظِيرُ سُؤَالِ الْعَافِيَةِ مِنَ الْفِتَنِ، وَقَدْ قَالَ الصِّدِّيقُ: لَأَنْ أُعَافَى فَأَشْكُرَ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُبْتَلَى فَأَصْبِرَ، وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّمَا نَهَى عَنْ تَمَّنِي لِقَاءِ الْعَدُوِّ لِمَا فِيهِ مِنْ صُورَةِ الْإِعْجَابِ، وَالاتْكَالِ عَلَى النُّفُوسِ، وَالْوُثُوقِ بِالْقُوَّةِ، وَقِلَّةِ الِاهْتِمَامِ بِالْعَدُوِّ، وَكُلُّ ذَلِكَ يُبَايِنُ الِاحْتِيَاطَ، وَالْأَخْذَ بِالْحَزْمِ، وَقِيلَ: يُحْمَلُ النَّهْيُ عَلَى مَا إِذَا وَقَعَ الشَّكُّ فِي الْمَصْلَحَةِ، أَوْ حُصُولِ الضَّرَرِ، وَإِلَّا فَالْقِتَالُ فَضِيلَةٌ وَطَاعَةٌ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ تَعْقِيبُ النَّهْيِ بِقَوْلِهِ: وَسَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ.
وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ مُرْسَلًا: لَا تمنوا لِقَاءَ الْعَدُوِّ، فَإِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ عَسَى أَنْ تبتلوا بهم. وَقَالَ ابن دَقِيقِ الْعِيدِ: لَمَّا كَانَ لِقَاءُ الْمَوْتِ مِنْ أَشَقِّ الْأَشْيَاءِ عَلَى النَّفْسِ، وَكَانَتِ الْأُمُورُ الْغَائِبَةُ لَيْسَتْ كَالْأُمُورِ الْمُحَقَّقَةِ، لَمْ يُؤْمَنْ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الْوُقُوعِ كَمَا يَنْبَغِي، فَيُكْرَهُ التَّمَنِّي لِذَلِكَ، وَلِمَا فِيهِ لَوْ وَقَعَ مِنَ احْتِمَالِ أَنْ يُخَالِفَ الْإِنْسَانُ مَا وَعَدَ مِنْ نَفْسِهِ، ثُمَّ أُمِرَ بِالصَّبْرِ عِنْدَ وُقُوعِ الْحَقِيقَة. انتهى
وهو بيِّن في أن المؤمن يستعفي ما أمكنه، ولكنه يصبر إذا نزل ما لا بد منه من البلاء، ومن ثَمَّ كان من مسقطات الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر أن يخاف مفسدة راجحة، وتعرضا لأذى لا يحتمله في بدنه أو ماله أو أهله.
قال النووي: ففيه القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأجمع العلماء على أنه فرض كفاية، فإن خاف من ذلك على نفسه، أو ماله، أو على غيره، سقط الإنكار بيده، ووجبت كراهته بقلبه، هذا مذهبنا، ومذهب الجماهير. انتهى.
وقال القرطبي: قال ابن عطية: والإجماع منعقد على أن النهي عن المنكر فرض لمن أطاقه، وأمن الضرر على نفسه، وعلى المسلمين، فإن خاف فينكر بقلبه، ويهجر ذا المنكر ولا يخالطه. انتهى.
وكذا الجهاد إذا غلب على الظن عدم تحقق المصلحة، وحصول المفسدة، كما قرره العلماء في مظانه، وأما من كان يقدر على تحمل البلاء، ويعلم من نفسه ذلك، فله أن يتعرض له في الحسبة ونحوها.
قال الغزالي: من علم أنه يضرب ضربًا مؤلمًا يتأذى به في الحسبة لم تلزمه الحسبة، وإن كان يستحب له ذلك كما سبق، وإذا فهم هذا في الإيلام بالضرب فهو في الجرح، والقطع، والقتل أظهر. انتهى.
ولذا كان سيد الشهداء مع حمزة -رضي الله عنه- من قام إلى إمام جائر، فأمره ونهاه، فقتله. والحاصل أن من علم أنه لا يقدر على تحمل البلاء، فإنه يستعفي ما أمكنه، ولا يعرض نفسه له؛ لئلا يفتن في دينه. وأما من غلب على ظنه أنه يصبر فهذا إن أخذ بالعزيمة لم يكن عليه حرج، وكذا إذا نزل البلاء بغير اختيار المكلف، ولا تعريضه نفسه له، فعليه أن يتلقاه بالصبر، والتسليم، والانقياد لحكم الله تعالى.
قال القاري في المرقاة في شرح هذا الحديث: (لَا يَنْبَغِي): أَيْ: (لَا يَجُوزُ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ) : أَيْ: بِاخْتِيَارِهِ، فَلَا يُنَافِي مَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَخْلُو مِنْ عِلَّةٍ أَوْ قِلَّةٍ أَوْ ذِلَّةٍ، قَالُوا: (وَكَيْفَ يُذِلُّ نَفْسَهُ؟) : وَجْهُ اسْتِبْعَادِهِمْ أَنَّ الْإِنْسَانَ مَجْبُولٌ عَلَى حُبِّ إِعْزَازِ نَفْسِهِ، (قَالَ (يَتَعَرَّضُ مِنَ الْبَلَاءِ) : بَيَانٌ لِمَا لَا يُطِيقُ، الظَّاهِرَةُ أَنَّ اللَّامَ بمعنى إلى. انتهى.
والله أعلم.