الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فترك الصف الأول للأكبر سِنًّا، أو الأكثر علمًا، يدخل في باب الإيثار بالقربات، وقد ذكرنا اختلاف الفقهاء فيه، ورجّحنا أنه جائز، وذلك في الفتوى: 59691.
والقول بكراهة الإيثار، له حظ من النظر، قال بدر الدين الزركشي في كتابه: «المنثور في القواعد الفقهية» عن أنواع الإيثار: (الْأَوَّلُ): أَنْ يَكُونَ فِيمَا لِلنَّفْسِ فِيهِ حَظٌّ، فَهُوَ مَطْلُوبٌ، كَالْمُضْطَرِّ يُؤْثِرُ بِطَعَامِهِ غَيْرَهُ، إذَا كَانَ ذَلِكَ الْغَيْرُ مُسْلِمًا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} ...
(الثَّانِي): فِي الْقُرُبَاتِ، كَمَنْ يُؤْثِرُ بِالصَّفِّ الْأَوَّلِ لِغَيْرِهِ وَيَتَأَخَّرُ هُوَ، أَوْ يُؤْثِرُ بِقُرْبِهِ مِنْ الْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ وَنَحْوِهِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ السَّابِقِ أَنَّهُ حَرَامٌ، وَكَذَا قَالَ الْإِمَامُ فِي بَابِ التَّيَمُّمِ: لَوْ دَخَلَ الْوَقْتُ وَمَعَهُ مَا يَتَوَضَّأُ بِهِ فَوَهَبَهُ لِغَيْرِهِ لِيَتَوَضَّأَ بِهِ، لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْإِيثَارَ إنَّمَا يَكُونُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالنُّفُوسِ وَالْمُهَجِ، لَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْقُرَبِ وَالْعِبَادَاتِ، وَقَالَ فِي بَابِ زَكَاةِ الْفِطْرِ: لَا أَعْرِفُ خِلَافًا فِي أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ الْإِيثَارُ.
وَقَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ فِي (الْقَوَاعِدِ): لَا إيثَارَ فِي الْقُرُبَاتِ، فَلَا إيثَارَ بِمَاءِ الْمُتَيَمِّمِ، وَلَا بِالصَّفِّ الْأَوَّلِ، وَلَا بِسَتْرِ الْعَوْرَةِ فِي الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ بِالْعِبَادَاتِ التَّعْظِيمُ وَالْإِجْلَالُ، فَمَنْ آثَرَ بِهِ، فَقَدْ تَرَكَ إجْلَالَ الْإِلَهِ وَتَعْظِيمَهُ؛ فَيَصِيرُ بِمَثَابَةِ مَنْ أَمَرَهُ سَيِّدُهُ بِأَمْرٍ فَتَرَكَهُ، وَقَالَ لِغَيْرِهِ قُمْ بِهِ، فَإِنَّ هَذَا يُسْتَقْبَحُ عِنْدَ النَّاسِ بِتَبَاعُدِهِ مِنْ إجْلَالِ الْأَمْرِ وَقُرْبِهِ (انْتَهَى) . وَأَمَّا النَّوَوِيُّ فَجَزَمَ بِالْكَرَاهَةِ. اهــ.
ولكن المداومة على ترك الصف الأول، والتأخّر عنه، بحيث كلما أتى المسجد مبكرًا تأخّر؛ ليتقدم كبار السن -إن جاؤوا فيما بعد- نرى أن المداومة على هذا تشعر بنوع زهد في الحسنات، وعدم الرغبة فيها.
والله أعلم.