الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فيوم المولد كغيره من الأيام، لا يحرم فيه حلال، ولا يحلّ فيه محرم لأجله؛ فلا تحرم فيه عصيدة، ولا غيرها مما أباحه الله، وإنما الممنوع هو صنع الطعام خصوصًا لأجل المولد؛ احتفالًا به.
فقد سبق أن بينا في فتاوى كثيرة سابقة عدم مشروعية الاحتفال بالمولد، وأنه بدعة في الدِّين، فلا يشرع تخصيص هذا اليوم بشيء من مظاهر الاحتفال، والاحتفاء به -كعمل طعام، أو زينة، أو غير ذلك-، وانظر الفتوى: 309454 عن حكم شراء الحلوى في المولد، والفتوى: 318940 عن حكم الأطعمة والموائد بمناسبة المولد النبوي، ومثلها الفتوى: 32461.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- كما في «مجموع الفتاوى»: جَمْعُ النَّاسِ لِلطَّعَامِ فِي الْعِيدَيْنِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ سُنَّةٌ، وَهُوَ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ الَّتِي سَنَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُسْلِمِينَ، وَإِعَانَةُ الْفُقَرَاءِ بِالْإِطْعَامِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، هُوَ مِنْ سُنَنِ الْإِسْلَامِ... وَأَمَّا اتِّخَاذُ مَوْسِمٍ غَيْرِ الْمَوَاسِمِ الشَّرْعِيَّةِ -كَبَعْضِ لَيَالِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ الَّتِي يُقَالُ: إنَّهَا لَيْلَةُ الْمَوْلِدِ، أَوْ بَعْضِ لَيَالِي رَجَبٍ، أَوْ ثَامِنَ عَشَرَ ذِي الْحِجَّةِ، أَوْ أَوَّلِ جُمْعَةٍ مِنْ رَجَبٍ، أَوْ ثَامِنِ شَوَّالٍ الَّذِي يُسَمِّيهِ الْجُهَّالُ: عِيدَ الْأَبْرَارِ-؛ فَإِنَّهَا مِنْ الْبِدَعِ الَّتِي لَمْ يَسْتَحِبَّهَا السَّلَفُ، وَلَمْ يَفْعَلُوهَا. اهـ.
وقال في معرض حديثه عن الأعياد الزمانية المبتدعة وأنواعها -كما في «اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم»-: وكذلك ما يحدثه بعض الناس، إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى -عليه السلام-، وإما محبة للنبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمًا، والله قد يثيبهم على هذه المحبة والاجتهاد، لا على البدع -من اتخاذ مولد النبي صلى الله عليه وسلم عيدًا، مع اختلاف الناس في مولده-؛ فإن هذا لم يفعله السلف، مع قيام المقتضي له، وعدم المانع منه لو كان خيرًا. ولو كان هذا خيرًا محضًا، أو راجحًا؛ لكان السلف -رضي الله عنهم- أحق به منا، فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيمًا له منا، وهم على الخير أحرص، وإنما كمال محبته وتعظيمه في متابعته، وطاعته، واتباع أمره، وإحياء سنته باطنًا وظاهرًا، ونشر ما بعث به، والجهاد على ذلك بالقلب واليد واللسان، فإن هذه طريقة السابقين الأولين -من المهاجرين والأنصار-، والذين اتبعوهم بإحسان، وأكثر هؤلاء الذين تجدهم حراصًا على أمثال هذه البدع، مع ما لهم من حسن القصد، والاجتهاد الذين يرجى لهم بهما المثوبة، تجدهم فاترين في أمر الرسول عما أمروا بالنشاط فيه، وإنما هم بمنزلة من يحلّي المصحف ولا يقرأ فيه، أو يقرأ فيه ولا يتبعه، وبمنزلة من يزخرف المسجد ولا يصلي فيه، أو يصلي فيه قليلًا. اهـ.
ولو أن من يعمل فيه الولائم لأجل المولد استبدلها بإطعام الطعام للفقراء والمساكين، لرجونا له الأجر والثواب؛ لأنه وإن كان الاحتفال بالمولد، وتخصيصه بشيء من الطعام غير مشروع؛ إلا أنه ربما يؤجر المسلم بما يعمله فيه من عمل صالح -كإطعام الفقراء-، أو يؤجر لحسن قصده وتعظيمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تعارض بين هذا وبين القول بعدم مشروعية المولد في الأصل؛ لأن الأجر الحاصل هنا إنما هو للطاعات التي صاحبته، لا لأصل العمل، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في «اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم»: فتعظيم المولد، واتخاذه موسمًا، قد يفعله بعض الناس، ويكون له فيه أجر عظيم؛ لحسن قصده، وتعظيمه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قدمته لك أنه يحسن من بعض الناس ما يستقبح من المؤمن المسدد؛ ولهذا قيل للإمام أحمد عن بعض الأمراء: إنه أنفق على مصحف ألف دينار، أو نحو ذلك، فقال: دعهم، فهذا أفضل ما أنفقوا فيه الذهب، أو كما قال. مع أن مذهبه أن زخرفة المصاحف مكروهة... وإنما قصده أن هذا العمل فيه مصلحة، وفيه أيضًا مفسدة كره لأجلها، فهؤلاء إن لم يفعلوا هذا، وإلا اعتاضوا بفساد لا صلاح فيه، مثل أن ينفقها في كتاب من كتب الفجور -من كتب الأسمار أو الأشعار، أو حكمة فارس والروم-. اهـ
والله أعلم.