الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فما تشعرين به من ذنب تجاه والدتك -رحمها الله تعالى- هو في الغالب شعور أهل البر من الناس بوالديهم، فإن البار يظل ينتابه الشعور بأنه قد أذنب وقصر في حق والديه.
ولا شك أن التقصير حاصل من كل أحد تجاه والديه، فمهما فعل الولد لوالديه يظل مقصرا في حقهما؛ لعظم هذا الحق، ففي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يجزي ولد والداً، إلا أن يجده مملوكا فيشتريه، فيعتقه.
لكن ليس معنى حصول التقصير حصول الإثم، فقد يكون الولد معذورا شرعا في بعض التقصير بسبب تعامل الوالد معه بصلف وتعسف وعدم إنصاف؛ كمثل بعض التصرفات التي ذكرت.
وإذا كان الغالب على حال الولد بر والديه والإحسان إليهما، فإن الله سبحانه يتجاوز عما يكون منه في حقهما من الهفوة والبادرة التي تصدر منه وقت الضجر والغضب، قال سبحانه: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا {الإسراء:25}.
قال القرطبي في تفسيره لهذه الآية: وقال ابن جبير: يريد البادرة التي تبدر، كالفلتة والزلة تكون من الرجل إلى أبويه أو أحدهما، لا يريد بذلك بأسا. قال الله تعالى: إن تكونوا صالحين. أي صادقين في نية البر بالوالدين. فإن الله يغفر البادرة. وقوله: فإنه كان للأوابين غفورا.. وعد بالغفران مع شرط الصلاح والأوبة. انتهى.
علما بأن هذا الشعور بالذنب والتقصير في حق أمك، تكفره التوبة الصادقة وكثرة الاستغفار، والمداومة على الدعاء لها والصدقة عنها، وإكرام أصدقائها وصلة أرحامها؛ فإن ذلك من البر الذي لا ينقطع بوفاتها. فقد روى أبو داود وابن ماجه عن أبي أسيد مالك بن ربيعة الساعدي -رضي الله عنه- قال: بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل من بني سلمة، فقال: يا رسول الله، هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ قال: نعم، الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما.
والله أعلم.