الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فكظم الغيظ معناه؛ حبس الغضب، أي عدم إظهاره على الجوارح بسَبٍّ، أو ضرب، ونحوهما، وقد جاء في الحديث: مَنْ كَظَمَ غَيْظًا، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ، دَعَاهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنْ أَيِّ الْحُورِ شَاءَ. رواه أحمد والترمذي وحسنه.
وأمَّا كيف تكظمين غيظك: فجوابه؛ أن تجاهدي نفسك على حبس غضبك، وتتمرنين على ذلك، حتى تتعودي عليه، والأخلاق الفاضلة المكتسبة إنما يُحصلها المرء -بعد توفيق الله- بالاجتهاد فيها، وتحريها والتمَرُّن عليها، وتعلمها؛ كما جاء في الحديث: إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، وَإِنَّمَا الْحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ، مَنْ يَتَحَرَّى الْخَيْرَ يُعْطَهُ، وَمَنْ يَتَّقِ الشَّرَّ يُوقَهُ. أخرجه الطبراني وغيره وحسنه الألباني.
وقد أحسن من قال:
بَصَائِرُ رُشْدٍ لِلْفَتَى مُسْتَبِينَةٌ وَأَخْلَاقُ صِدْقٍ عِلْمُهَا بِالتَّعَلُّمِ.
وأما كيفية التوفيق بين هذا وبين الدفاع عن النفس: فإن لكل مقام مقالا، ولكل حال حكمه، ففي مواطن يكون الانتصار للنفس خير من العفو عن الظالم، وكظم الغيظ عنه، وفي بعض المواطن يكون العكس صحيح، والعفو إنما يكون محمودا عند المقدرة، وقد ذكرنا المفاضلة بينهما في فتاوى سابقة كالفتوى: 355846، والفتوى: 391813.
قال الطاهر بن عاشور -رحمه الله تعالى- في التحرير والتنوير: الِانْتِصَارَ مَحْمَدَةٌ دِينِيَّةٌ؛ إِذْ هُوَ لِدَفْعِ الْبَغْيِ اللَّاحِقِ بِهِمْ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ، فَالِانْتِصَارُ لِأَنْفُسِهِمْ رَادِعٌ لِلْبَاغِينَ عَنِ التَّوَغُّلِ فِي الْبَغْيِ عَلَى أَمْثَالِهِمْ، وَذَلِكَ الرَّدْعُ عَوْنٌ عَلَى انْتِشَارِ الْإِسْلَامِ، إِذْ يَقْطَعُ مَا شَأْنُهُ أَنْ يُخَالِجَ نُفُوسَ الرَّاغِبِينَ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ هَوَاجِسِ خَوْفِهِمْ مِنْ أَنْ يُبْغَى عَلَيْهِمْ، وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنْ لَيْسَ بَيْنَ قَوْلِهِ هُنَا: وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ آنِفًا: وَإِذا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ [الشورى: 37] تَعَارَضٌ لِاخْتِلَافِ الْمَقَامَيْنِ كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا، وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ: كَانَ الْمُؤْمِنُونَ يَكْرَهُونَ أَنْ يُسْتَذَلُّوا، وَكَانُوا إِذَا قَدَرُوا عَفَوْا. اهــ.
والله أعلم.