الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإننا أولا نهنئك على ما أنعم الله به عليك من التوفيق لأعمال الخير، وفعل الطاعات، والاهتمام بالقرآن، ونسأله -سبحانه- أن يزيدك هدى وتقى وصلاحا.
ونحن إنما نشدد في أمر قطيعة الرحم، حيث وردت النصوص بالتشديد فيها، ومن ذلك ما جاء في كونها توجب قطيعة الله -سبحانه- كما ثبت في الصحيحين من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللهَ خَلَقَ الْخَلْقَ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْهُمْ، قَامَتِ الرَّحِمُ، فَقَالَتْ: هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ مِنَ الْقَطِيعَةِ، قَالَ: نَعَمْ، أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ، وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟ قَالَتْ: بَلَى، قَالَ: فَذَاكِ لَكِ.
وقد يدخل في هذه القطيعة عدم إجابة الدعاء، وعلى وجه العموم فإن قطيعة الرحم كسائر المعاصي يمكن أن تكون مانعا من إجابة الدعاء.
وقد جاء في أثر عن ابن مسعود -رضي الله عنه- ما يدل على أن قطيعة الرحم خاصة يمكن أن تمنع من إجابة الدعاء.
روى الطبراني، والبيهقي في شعب الإيمان، عن الأعْمَشِ قال: كان ابنُ مسعودٍ جالِسًا بعدَ الصُّبح في حَلقَةٍ، فقال: أَنْشُدُ اللهَ قاطعَ رَحِمٍ لَمَا قام عنَّا، فإنَّا نريدُ أَنْ نَدْعُوَ ربَّنا، وإنَّ أبوابَ السماءِ مُرْتَجَةٌ دونَ قاطعِ رَحِمٍ. ولكن الشيخ الألباني قد ضعّفه.
ويكفي ما سلف من بيان كونها قد تمنع إجابة الدعاء كغيرها من المعاصي، ويستأنس بأثر ابن مسعود؛ لكونه يؤكد ذلك العموم.
وهذا كله لا يعني أن يترك المسلم الدعاء، فمهما كان مسرفا في المعاصي، فليدع، وليحسن الظن بربه.
قال سفيان بن عيينة: لا يمنعنّ أحدكم من الدعاء ما يعلم من نفسه، فإن الله -عز وجل- أجاب دعاء شر الخلق إبليس -لعنه الله- إذ قال: (قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) [الحجر:36-37]. اهـ.
والواجب المبادرة للتوبة، فإن ذلك يجعل الدعاء أرجى للإجابة.
وإن صح ما ذكرت عن أبيك من تفريطه في أمر الإنفاق عليكما ورعايتكما، وما كان منه من إيذاء لكما، فهو بذلك قاطع لرحمه ومسيء إساءة بالغة، وآثم إثما مبينا. روى أبو داود عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كفى بالمرء إثما، أن يضيع من يقوت.
ولكنه يبقى أباً، وإساءته لا تسقط عنكما وجوب بره وصلته، وسبق بيان ذلك في الفتوى: 430867.
وبره يكون بإيصال ما أمكن من الخير إليه.
جاء في غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب: وَالْمَعْنَى الْجَامِعُ: إيصَالُ مَا أَمْكَنَ مِن الْخَيْرِ، وَدَفْعُ مَا أَمْكَنَ مِن الشَّرِّ، بِحَسَبِ الطَّاقَةِ. اهـ.
وإذا كانت زيارته يخشى أن يترتب عليها أذى، فيوصل بما يجري العرف بكونه صلة، ومن ذلك الاتصال الهاتفي مثلا.
قال النووي في شرحه لصحيح مسلم: وأما صلة الرحم: فهي الإحسان إلى الأقارب ـ على حسب حال الواصل والموصول ـ فتارة تكون بالمال، وتارة بالخدمة، وتارة بالزيارة والسلام وغير ذلك. اهـ.
وصلتك لأبيك وبرك به، لا يعني إنكارك لجميل جدك، فلتحفظا لجدكما ما فعل معكما من المعروف، ولتؤديا في الوقت ذاته ما أوجب الله عليكما تجاه أبيكما.
ونوصيكما بكثرة الدعاء لأبيكما بأن يصلح الله حاله، ويرزقه رشده وصوابه، فالدعاء له من أفضل أنواع البر والإحسان، ولعل الله -سبحانه- يجعلكما سببا لصلاحه وهدايته.
والله أعلم.