الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فقد جمع الروايات الإمام العراقي في تقريب الأسانيد فقال :
وعن همام عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: { طهر إناء أحدكم إذا ولغ الكلب فيه أن يغسله سبع مرات } رواه مسلم. وفي رواية له ( طهور ) وزاد { أولاهن بالتراب } قال البيهقي في المعرفة: ومحمد بن سيرين ينفرد بذكر التراب فيه من حديث أبي هريرة، وقال في السنن بعد أن رواه من رواية أبي رافع عن أبي هريرة: حديث غريب , إن كان حفظه معاذ فهو حسن ; لأن التراب في هذا الحديث لم يروه ثقة غير ابن سيرين ( قلت ) : تابعه عليه أخوه يحيى بن سيرين فيما رواه البزار وقال : { أولهن أو آخرهن بالتراب } وللبيهقي ( أولاهن أو أخراهن ) ولأبي داود ( السابعة بالتراب ) وللبزار ( إحداهن بالتراب ) وللدارقطني من حديث علي إحداهن بالبطحاء. ولمسلم من حديث عبد الله بن مغفل { وعفروه الثامنة بالتراب } .
ثم قال في شرح هذه الروايات في طرح التثريب:
{ السابعة } اختلفت الروايات في المرة التي تجعل فيها التراب، فعند مسلم -كما تقدم- أولاهن أو قال أخراهن بالتراب، وفي رواية لأبي بكر البزار في مسنده إحداهن بالحاء , والدال المهملتين. ومن ذكر من المصنفين أنها لم ترد من حديث أبي هريرة فمردود عليه بذكر البزار لها في مسنده . وقد رواها الدارقطني هكذا أيضا من حديث علي فقال فيه: إحداهن بالبطحاء. وذكر النووي في الفتاوى أنها رواية ثابتة. ولمسلم من حديث عبد الله بن مغفل { إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبع مرات وعفروه الثامنة بالتراب } . وقد اختلف كلام الشارحين في الجمع بينها .
فجمع النووي بينها بأن التقييد بالأولى وبغيرها ليس على الاشتراط بل المراد إحداهن قال. وأما رواية وعفروه الثامنة بالتراب فمذهبنا ومذهب الجماهير أن المراد اغسلوه سبعا واحدة منهن بتراب مع الماء فكأن التراب قائم مقام غسلة فسميت ثامنة لهذا، وأشار ابن دقيق العيد إلى تضعيف هذا الجواب بأنه تأويل فيه استكراه . وهكذا يدل كلام البيهقي في السنن على تعذر الجمع بين رواية الثامنة بالتراب وبين ما تقدم , فإنه صار إلى الترجيح دون الجمع فقال بعد ذكر حديث ابن مغفل في الثامنة ما صورته: وأبو هريرة أحفظ من روى الحديث في دهره فروايته أولى، فرجح البيهقي روايته بكونه أحفظ وهو أحد وجوه الترجيح عند المعارضة .... وقد ضعف بعض مصنفي الحنفية الرواية التي ذكر فيها التراب بهذا الاضطراب من كونها أولاهن أو أخراهن أو إحداهن أو السابعة أو الثامنة فقال : إن هذا الاضطراب يقتضي طرح ذكر التراب رأسا , وكذا قال صاحب المفهم إن هذه الزيادة مضطربة وفيما قالاه نظر , فإن الحديث المضطرب إنما تتساقط الروايات إذا تساوت وجوه الاضطراب، أما إذا ترجح بعض الوجوه فالحكم للرواية الراجحة فلا يقدح فيها رواية من خالفها كما هو معروف في علوم الحديث . وإذا تقرر ذلك فلا شك أن رواية أولاهن أرجح من سائر الروايات , فإنه رواها عن محمد بن سيرين ثلاثة , هشام بن حسان وحبيب بن الشهيد وأيوب السختياني، وأخرجها مسلم في صحيحه من رواية هشام فتترجح بأمرين : كثرة الرواة وتخريج أحد الشيخين لها، وهما من وجوه الترجيح عند التعارض .
وأما رواية أخراهن بالخاء المعجمة , والراء فلا توجد منفردة مسندة في شيء من كتب الحديث إلا أن ابن عبد البر ذكر في التمهيد أنه رواها خلاس عن أبي هريرة كما سيأتي في الوجه الذي يليه إلا أنها رويت مضمومة مع أولاهن كما سيأتي .
وأما رواية السابعة بالتراب فهي , وإن كانت بمعناها , فإنه تفرد بها عن محمد بن سيرين قتادة وانفرد بها أبو داود , وقد اختلف فيها على قتادة فقال إبان عنه هكذا , وهي رواية أبي داود وقال سعيد بن بشير عنه الأولى بالتراب فوافق الجماعة رواه كذلك الدارقطني في سننه , والبيهقي من طريقه , وهذا يقتضي ترجيح رواية أولاهن لموافقته للجماعة .
وأما رواية إحداهن بالحاء المهملة والدال فليست في شيء من الكتب الستة , وإنما رواها البزار كما تقدم .
وأما رواية أولاهن أو أخراهن فقد رواها الشافعي , والبيهقي من طريقه بإسناد صحيح , وفيه بحث أذكره , وهو أن قوله: أولاهن أو أخراهن لا تخلو إما أن تكون مجموعة من كلام الشارع، أو هو شك من بعض رواة الحديث , فإن كانت مجموعة من كلام النبي صلى الله عليه وسلم فهو دال على التخيير بينهما ويترجح حينئذ ما نص عليه الشافعي رحمه الله من التقييد بهما , وذلك ; لأن من جمع بينهما معه زيادة علم على من اقتصر على الأولى أو السابعة ; لأن كلا منهن حفظ مرة فاقتصر عليها وحفظ هذا الجمع بين الأولى , والأخرى فكان أولى .
وإن كان ذلك شكا من بعض الرواة فالتعارض قائم ويرجع إلى الترجيح، فترجح الأولى كما تقدم، ومما يدل على أن ذلك شك من بعض الرواة لا من كلام الشارع قول الترمذي في روايته أولاهن أو قال أخراهن بالتراب، فهذا يدل على أن بعض الرواة شك فيه فيترجح حينئذ تعيين الأولى . اهـ
وقال المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير : ( سبع مرات أولاهن بالتراب ) كذا للأكثر، وفي رواية إحداهن، وطريق الجمع أن يقال إحداهن مبهمة وأولاهن معينة، فإن كانت في نفس الخبر فللتخيير، فمقتضى حمل المطلق على المقيد حمله على إحداهن لأن فيه زيادة على الرواية المعينة ونص عليه في الأم والبويطي وصرح به المرعشي وغيره وغفل عنه من بحثه كالسبكي، وإن كانت شكا من الراوي فرواية من عيَّن ولم يشك أولى ممن أبهم أو شك، فيبقى النظر في الترجيح بين أولاهن والتابعة وأولاهن أرجح من حيث الأكثرية والأحوطية ومن حيث المعنى لأن تتريب الأخيرة يحتاج إلى غسلة أخرى للتنظيف، وقد نص الشافعي في حرمله على أن الأولى أولى والله أعلم، وقد أخذ بهذا الحديث الشافعية وخالفهم الحنفية فلم يوجبوا التسبيع ولا التعفير لكون راويه أفتى بتثليث غسله، قلنا: مذهب الراوي غير حجة، فإن قيل الأخذ بالسبع ترجيح، لأنه ورد ثلاث وخمس، قلنا: الورود ممنوع وبفرضه لم يصح بشروطه أو منسوخ لتأخر التشديدات أو الغسلات أو مذهب الراوي، والمالكية أوجبوا التسبيع تعبدا بغير التتريب لطهارة الكلب عندهم، والكلام على هذا الحديث أفرد بالتأليف لانتشاره جدا احتج به الشافعي على نجاسة الكلب لأن الطهارة إنما تكون عن حدث أو خبث، ولا حدث على الإناء فتعين كونها للنجس، وزعم أن الطهارة تكون من غيرهما كالتيمم منع بأن موجبه الحدث وإن لم يرفع فلا يقال إنه طهارة لا عن حدث .
والراجح- والله أعلم- هو ما قاله ابن حجر الهيتمي في تحفة المحتاج حيث قال : ( إحداهن بالتراب ) الطهور للحديث الصحيح { طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب } وإذا وجب ذلك في ولوغه مع أن فمه أطيب ما فيه لكثرة لهثه فغيره أولى، وفي رواية أخراهن , وفي أخرى الثامنة أي لمصاحبة التراب لها بدليل رواية السابعة وفي أخرى إحداهن وهي مبينة لأن النص على الأولى لبيان الأفضل، والأخرى لبيان الجواز، وبفرض عدم ثبوتها فالقاعدة أن القيود إذا تنافت سقطت وبقي أصل الحكم، وأوفى رواية أولاهن أو أخراهن شك من الراوي كما بينه البيهقي .