الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فلا نعلم أحدًا من أهل العلم فرَّق بين توبة من قتل وهو ينوي التوبة؛ فلا تقبل، وبين توبة من قتل بغير نية التوبة؛ فتقبل! ودلالة القرآن على خلاف ذلك، كما في قوله تعالى: اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ {يوسف: 9}.
ففيها دليل على قبول توبة القاتل الذي قتل وهو ينوي التوبة من القتل. قال الطبري في تفسيره: وتكونوا من بعده قومًا صالحين ـ يعنون أنهم يتوبون من قتلهم يوسف، وذنبهم الذي يركبونه فيه، فيكونون بتوبتهم من قتله من بعد هلاك يوسف قومًا صالحين. اهـ.
وقال الجصاص في أحكام القرآن: قولهم: وتكونوا من بعده قوما صالحين ـ فرجوا التوبة بعد هذا الفعل، وهو نحو قوله تعالى: بل يريد الإنسان ليفجر أمامه ـ قيل في التفسير: إنه يعزم على المعصية رجاء للتوبة بعدها، فيقول: أفعل ثم أتوب، وفي ذلك دليل على أن توبة القاتل مقبولة؛ لأنهم قالوا: وتكونوا من بعده قوما صالحين ـ وحكاه الله عنهم، ولم ينكره عليهم. اهـ.
وقال القرطبي في تفسيره: قوما صالحين ـ أي تائبين، أي تحدثوا توبة بعد ذلك، فيقبلها الله منكم، وفي هذا دليل على أن توبة القاتل مقبولة، لأن الله تعالى لم ينكر هذا القول منهم. اهـ.
وقال السمعاني في تفسيره: واستدل أهل السنة بهذه الآية على أن توبة القاتل عمدا مقبولة؛ فإن الله تعالى ذكر عزم القتل منهم، وذكر التوبة، ولم ينكر عليهم التوبة بعد القتل؛ دل أنها مقبولة. اهـ.
وقال ابن الجوزي في زاد المسير: وفي قصتهم نكتة عجيبة، وهو أنهم عزموا على التوبة قبل الذنب، وكذلك المؤمن لا ينسى التّوبة، وإن كان مرتكبا للخطايا. اهـ.
وقال ابن كثير في تفسيره: وتكونوا من بعد إعدامه قوما صالحين ـ فأضمروا التوبة قبل الذنب. اهـ.
وروى الخلال في أحكام النساء: عن إسماعيل بن سعيد، قال: سألت أحمد -يعني ابن حنبل- عن المُصرِّ على الكبائر بجهده، إلا أنه لم يترك الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، والجمعة، هل يكون مصرّا من كانت هذه حاله؟ قال: هو مصر في مثل قوله -صلى الله عليه وسلم-: لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن... فقلت له: أرأيت إن كان خائفًا من إصراره، ينوي التوبة، ويسأل ذلك، ولا يدع ركوبها؟ قال: الذي يخاف أحسن حالًا. اهـ.
والله أعلم.