الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فكتابة البيت باسمكم في صورة عقد بيع -كما ذكرت- إن كان عقد بيع حقيقي دفعتم فيه الثمن، فلا إشكال في كون البيت لكم، ولا حق لغيركم من الورثة فيه.
وإن كان عقدَ بيع صوري، وليس بيعا حقيقيا، -وهو الظاهر- ففي هذه الحال ينظر في المقصود من ذلك.
فإن كان المقصود منه أن يظل البيت تحت تصرفه حال حياته، وإذا مات حُزْتم البيت وانفردتم به.
فهذه وصية، والوصية للوارث لا تصح، ولا تمضي إلا إذا أجازها بقية الورثة. لحديث: إن الله أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث. رواه الترمذي والدارقطني، وزاد: إلا إن يشاء الورثة.
قال الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام: إسناده حسن.
وأما إن كان القصد من كتابة البيت باسمكم: هبته لكم هبة منجزة، وقد حصلت منه في حال صحته ورشده، وحزتم البيت وقبضمتوه قبل وفاته. فالبيت يعتبر ملكا خالصا لكم. ولا حق لإخوانكم فيه بعد موته -ولو لم يعدل أبوكم في الهبة- لأن الهبة الجائرة تستقر بموت الواهب. كما بيناه في الفتوى: 441304.
وإن لم تقبضوا البيت حتى مات أبوكم، فالهبة لم تتم، ويكون البيت تركة يقسم بين كل الورثة القسمة الشرعية.
ولم تبين لنا هل كان والدكم ساكنا معكم في البيت الذي وهبه لكم أم لا؟ لأنه إن كان ساكنا معكم فيه حتى مات، فإن الحيازة لم تحصل عند بعض الفقهاء -وهو المفتى به عندنا- لأنه يشترط أن يخلي متاعه من البيت حتى تتم الحيازة، ولأهل العلم تفصيل فيما تقع به حيازة الدار الموهوبة.
جاء في الموسوعة الفقهية:
حِيَازَةُ الدَّارِ الْمَوْهُوبَةِ:
الْمِلْكِيَّةُ لِلدَّارِ الْمَوْهُوبَةِ تَثْبُتُ بِالْقَبْضِ بِإِذْنِ الْوَاهِبِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَتَثْبُتُ الْمِلْكِيَّةُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ. غَيْرَ أَنَّهُمْ يَشْتَرِطُونَ لِتَمَامِ الْعَقْدِ، الْحِيَازَةَ لِلدَّارِ الْمَوْهُوبَةِ.
وَعَلَى ذَلِكَ، فَإِذَا وَهَبَ شَخْصٌ لآِخَرَ دَارًا، فَإِنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ تَثْبُتُ لَهُ مَلَكِيَّةُ الدَّارِ، وَتُصْبِحُ نَافِذَةً عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ بِحِيَازَةِ هَذِهِ الدَّارِ، وَهَذَا إِذَا كَانَ الْمَوْهُوبُ لَهُ بَالِغًا رَشِيدًا.
فَإِذَا كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ، فَيَقُومُ وَلِيُّهُ مَقَامَهُ نِيَابَةً عَنْهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ هُوَ الْوَاهِبَ. فَإِنْ كَانَ الْوَلِيُّ هُوَ الْوَاهِبَ فَإِنَّ الْمَالِكِيَّةَ يَقُولُونَ تُخْلَى الدَّارُ الْمَوْهُوبَةُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ، وَلاَ يَسْكُنُهَا الْوَلِيُّ، فَإِنْ سَكَنَهَا بَطَلَتِ الْهِبَةُ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الأْبَ لَوْ وَهَبَ ابْنَهُ الصَّغِيرَ الدَّارَ الَّتِي يَسْكُنُهَا، وَكَانَتْ مَشْغُولَةً بِمَتَاعِهِ (أَيِ الْوَاهِبِ) فَإِنَّ هَذَا جَائِزٌ لَهُ، وَلاَ يَمْنَعُ ذَلِكَ صِحَّةَ الْهِبَةِ. لَكِنْ لَوْ أَسْكَنَهَا الأْبُ لِغَيْرِهِ بِأَجْرٍ، فَإِنَّ هَذَا لاَ يَجُوزُ. وَلَوْ أَسْكَنَهَا لِغَيْرِهِ بِدُونِ أَجْرٍ جَازَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ.
وَاتَّفَقَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ لَوْ وَهَبَتْ دَارَهَا لِزَوْجِهَا وَهِيَ سَاكِنَةٌ فِيهَا، وَلَهَا أَمْتِعَةٌ فِيهَا، وَالزَّوْجُ سَاكِنٌ مَعَهَا، فَإِنَّ هَذِهِ الْهِبَةَ صَحِيحَةٌ.
وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَهَبَ الزَّوْجُ دَارَ سُكْنَاهُ لِزَوْجَتِهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ؛ لأِنَّ السُّكْنَى لِلرَّجُل لاَ لِلْمَرْأَةِ، فَإِنَّهَا تَبَعٌ لِزَوْجِهَا.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْ خُلُوِّ الدَّارِ الْمَوْهُوبَةِ مِنْ أَمْتِعَةِ غَيْرِ الْمَوْهُوبِ لَهُ، فَإِنْ كَانَتْ مَشْغُولَةً بِهَا، وَاسْتَمَرَّتْ فِيهَا فَإِنَّ الْهِبَةَ لاَ تَصِحُّ.
وَلاَ فَرْقَ عِنْدَهُمْ بَيْنَ الْهِبَةِ لِلأْجْنَبِيِّ أَوْ لِوَلَدِهِ الصَّغِيرِ، وَيَقُولُونَ بِجَوَازِ أَنْ يَسْكُنَ الأْبُ فِي دَارِ سُكْنَاهُ الْمَوْهُوبَةِ لِوَلَدِهِ الْمَشْمُول بِوِلاَيَتِهِ، وَعَلَيْهِ الأْجْرَةُ بَعْدَ تَمَامِ الْهِبَةِ. اهـ.
وحكم المحكمة الشرعية في مثل هذه المسائل يرفع الخلاف. فإن نظرت المحكمة في قضيتكم، وحكمت بأن البيت لكم، فهو كذلك.
والمسائل التي رفعت إلى المحاكم، لا تفيد فيها الفتوى، ولكن يرجع فيها إلى المحكمة، وحكم القاضي فيها يرفع الخلاف.
قال الكاساني -الحنفي- في بدائه الصنائع: كَذَلِكَ الْمُقَلِّدُ إذَا أَفْتَاهُ إنْسَانٌ فِي حَادِثَةٍ، ثُمَّ رُفِعَتْ إلَى الْقَاضِي، فَقَضَى بِخِلَافِ رَأْيِ الْمُفْتِي، فَإِنَّهُ يَأْخُذُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، وَيَتْرُكُ رَأْيَ الْمُفْتِي؛ لِأَنَّ رَأْيَ الْمُفْتِي يَصِيرُ مَتْرُوكًا بِقَضَاءِ الْقَاضِي. اهـ.
وانظر أيضا المزيد في الفتوى: 129346، والفتوى: 404806، والفتوى: 290998، والفتوى: 355237، والفتوى: 241009.
والله أعلم.