الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد ثبت في الأحاديث الصحيحة؛ أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كان في بيته يخدم نفسه وأهله؛ تواضعا منه -صلى الله عليه وسلم- وتعليما لأمته التواضع والتراحم.
وقول عائشة -رضي الله عنها- في الحديث: يعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم. لا يعني اقتصاره على خدمة نفسه في الأمور المختصة به، أو التي لا يقدر عليها إلا الرجال في الغالب؛ فقد بينت -رضي الله عنها- أنّه يكون في خدمة أهله.
ففي صحيح البخاري عن الأسود قال: سألت عائشة: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته؟ قالت: كان يكون في مهنة أهله، تعني خدمة أهله. فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة.
وهذه أقوال أهل العلم في شرح الحديث:
جاء في شرح المصابيح لابن الملك: "تعني خدمة أهله"؛ يعني: كان يشتغل بمصالح أهله وعياله. انتهى.
وقال ابن قرقول في مطالع الأنوار: وقولها: "في مِهْنَه أَهْلِهِ" أي: عملهم وخدمتهم، وما يصلحهم. انتهى.
وجاء في المفاتيح في شرح المصابيح: يعني: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يشتغل بمصالح أهله وعياله في بيته، فإذا جاء وقت الصلاة خرج إليها. انتهى.
وقال ابن حجر -رحمه الله- في فتح الباري: وفيه الترغيب في التواضع وترك التكبر، وخدمة الرجل أهله. انتهى.
وقال العيني -رحمه الله- في عمدة القاري: وَفِيه: أَن خدمَة الدَّار وَأَهْلهَا سنة عباد الله الصَّالِحين. انتهى.
وقال المناوي -رحمه الله- في فيض القدير: (ويعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم) من الاشتغال بمهنة الأهل والنفس. إرشادا للتواضع وترك التكبر؛ لأنه مشرف بالوحي والنبوة، ومكرم بالمعجزات والرسالة. انتهى.
لكن ذكر بعض أهل العلم؛ أنّ هذه الخدمة لا تكون في الأمور المختصة بنسائه في شؤونهن؛ لاستبعاد موافقتهن -رضي الله عنهن- على ذلك.
فقد جاء في طرح التثريب في شرح التقريب: أَمَّا خِدْمَةُ أَهْلِهِ فِي الْحَاجَاتِ الْمُخْتَصَّةِ بِهِنَّ، فَهُوَ غَيْرُ مُرَادٍ فِي الْحَدِيثِ -فِيمَا يَظْهَرُ- وَلَا يُمْكِنُ لِأُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ- السُّكُوتُ عَنْ ذَلِكَ، وَالْمُوَافَقَةُ عَلَيْهِ.
وَقَدْ رَجَّحَ أَصْحَابُنَا الشَّافِعِيَّةُ فِي الزَّوْجَةِ الَّتِي يَجِبُ إخْدَامُهَا أَنَّ الزَّوْجَ لَوْ قَالَ: أَنَا أَخْدُمُهَا؛ لِتَسْقُطَ مُؤْنَةُ الْخَادِمِ عَنِّي، لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ. وَعَلَّلُوهُ بِأَنَّهَا تَسْتَحِي مِنْهُ، وَتُعَيَّرُ بِهِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: لَهُ ذَلِكَ. وَبِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ. وَقَالَ الْقَفَّالُ وَغَيْرُهُ: لَهُ ذَلِكَ فِيمَا لَا يُسْتَحَى مِنْهُ كَغَسْلِ الثَّوْبِ، وَاسْتِقَاءِ الْمَاءِ، وَكَنْسِ الْبَيْتِ وَالطَّبْخِ، دُونَ مَا يَرْجِعُ إلَى خِدْمَتِهَا كَصَبِّ الْمَاءِ عَلَى يَدِهَا، وَحَمْلِهِ إلَى الْمُسْتَحَمِّ. انْتَهَى.
والله أعلم.