الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فننبه أولا إلى أن الفَصْل في قضايا المنازعات محلُّهُ القضاء، أو من ينوب منابه.
وذلك لأنها الأقدر على السماع من أطراف النزاع، وإدراك حقيقة الدعاوي والبينات والدُّفُوع، ثم إصدار الحكم المؤسس على ذلك.
وأما المفتي؛ فإنه لا يَسْمَع إلا من طرفٍ واحد، ولن يكون تصوره للمسألة إلا بحسب ما يتلقاه من المستفتي، ولذلك لا يستطيع إصدار الحكم الدقيق في مثل هذه القضايا.
وما سنذكره هنا إنما هو على سبيل العموم والإرشاد والتوجيه.
إضافة إلى ما سبق، فهذه المسألة من مسائل الخلاف بين أهل العلم.
قال ابن قدامة في «المغني»: إذا كان بينهما حائط مشترك، فانهدم، فطلب أحدهما إعادته، فأبى الآخر، فهل يجبر الممتنع على إعادته؟ قال القاضي: فيه روايتان ... اهـ.
ثم ذكرهما بأدلتهما تفصيلا -أعني صاحب المغني-، ثم قال: إن كان السفل لرجل، والعلو لآخر، فانهدم السقف الذي بينهما، فطلب أحدهما المباناة من الآخر، فامتنع، فهل يجبر الممتنع على ذلك؟ على روايتين، كالحائط بين البيتين. وللشافعى قولان كالروايتين. اهـ.
وعلى القول بالإجبار، يُلزم صاحب العلو بقسطه من نفقة البناء.
قال المرداوي في «الإنصاف»: إذا قلنا: يجبر على بنائه معه -وهو المذهب- وامتنع، أجبره الحاكم على ذلك، فإن لم يفعل، أخذ الحاكم من ماله وأنفق عليه، فإن لم يكن له عين مال، باع من عروضه، فإن تعذر، اقترض عليه. اهـ.
وهذا القول أحوط لأخي السائل، ولكن مع إعساره يمهل في قضاء دينه إلى أن يتيسر له القضاء، كما قال تعالى: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة: 280].
ولا يلزمه أن يُقَتِّر أو يضيق في النفقة على نفسه، وعلى من تلزمه نفقته حتى يضر بهم، بل ينفق بالمعروف ولا يضر بنفسه، وبمن يعول، ويجعل الفاضل لقضاء دينه.
وانظر للفائدة، الفتوى: 13557.
وإذا تنازع الطرفان في استحقاق كلفة البناء، فلا يرفع الخلاف بينهما إلا حكم القاضي الملزم للطرفين، كما نبهنا أولا.
والله أعلم.