الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فالمقصود بالكتاب في قوله تعالى: [وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ] (الكهف: 49). أي الكتاب الذي دونت فيه أعمال العبد، وقد فصل هذا المعنى ابن جرير الطبري رحمه الله فقال: القول في تأويل قوله تعالى: [وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً] (الكهف: 49). يقول عز ذكره: ووضع الله يومئذ كتاب أعمال عباده في أيديهم فأخذ واحد بيمينه وأخذ واحد بشماله [فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ] يقول عز ذكره: فترى المجرمين المشركين بالله مشفقين: يقول: خائفين وجلين مما فيه مكتوب من أعمالهم السيئة التي عملوها في الدنيا أن يؤاخذوا بها، ويقولون يا ويلتنا ما ل هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة لا أحصاها، يعني أنهم يقولون إذا قرأوا كتابهم ورأوا ما قد كتب عليهم فيه من صغائر ذنوبهم وكبائرها نادوا بالويل حين أيقنوا بعذاب الله وضجوا مما قد عرفوا من أفعالهم الخبيثة التي قد أحصاها كتابهم ولم يقدروا أن ينكروا صحتها..
وقد كتب الله كتابا فيه مقادير الخلائق وما يجري لهم في حياتهم قبل أن يخلقهم بخمسين ألف سنة، لما رواه مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة.
وفي سنن أبي داود والترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن أول ما خلق القلم، فقال له: اكتب، قال: وما أكتب يا رب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة.
وأما قولك هل صحيح أن الجنين يكتب على جبينه مسيرة عمره وحياته من عمل وزواج وتاريخ وفاة؟ فلم نقف له على أصل صحيح بهذا التفصيل، وإن كان قد جاء في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما ثم يكون في ذلك علقة، ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد.. ولا شك أن هذا يشمل ما قدر له من زواج وغيره، ومن تاريخ وفاة.
وأما هل الإنسان مسير أم مخير؟ فالجواب أنه لا يصح أن يقال: إن الإنسان مخير أو مسير، لأنه مخير ومسير، فهو مسير لما خلق له، ومخير لأن الله تعالى أعطاه عقلا وسمعا وإدراكا، فهو يعرف الخير من الشر والضار من النافع، وانظر الفتوى رقم: 4054، أما الكتاب الذي يكتب عند نفخ الروح ففيه سعادة المرء وشقاوته، وكلٌ ميسر لما خلق له من الأعمال التي هي سبب لذلك.
فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما منكم من أحد وما من نفس منفوسة إلا كتب مكانها من الجنة والنار، وإلا قد كتبت شقية أو سعيدة. قال رجل: يا رسول الله: أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ فمن كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة، ومن كان من أهل الشقاء فسيصير إلى أهل الشقاوة؟ قال: أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاء، ثم قرأ: [فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى] (الليل: 5-6) .
والله أعلم.