الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
ففي صحيح مسلم (4/ 2215) عن ثوبان، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها، ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها، وأعطيت الكنزين الأحمر، والأبيض، وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة، وأن لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال: يا محمد إني إذا قضيت قضاء، فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة، وأن لا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم، يستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها، حتى يكون بعضهم يهلك بعضا، ويسبي بعضهم بعضا. اهـ.
وقال القرطبي في المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (7/ 216):
و(قوله: وإن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها، ومغاربها) أي: جمعها لي حتى أبصرت ما تملكه أمتي من أقصى المشارق، والمغارب منها. وظاهر هذا اللفظ يقتضي أن الله -تعالى- قوى إدراك بصره، ورفع عنه الموانع المعتادة، فأدرك البعيد من موضعه، كما أدرك بيت المقدس من مكة، وأخذ يخبرهم عن آياته، وهو ينظر إليه، وكما قال: إني لأبصر قصر المدائن الأبيض. ويحتمل أن يكون مثلها الله له فرآها، والأول أولى.
و(قوله: إن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها)، هذا الخبر قد وجد مخبره، كما قال -صلى الله عليه وسلم-، وكان ذلك من دلائل نبوته، وذلك أن ملك أمته اتسع إلى أن بلغ أقصى بحر طنجة الذي هو منتهى عمارة المغرب، إلى أقصى المشرق، مما وراء خراسان، والنهر، وكثير من بلاد الهند، والسند، والصغد. ولم يتسع ذلك الاتساع من جهة الجنوب، والشمال، ولذلك لم يذكر أنه أريه، ولا أخبر أن ملك أمته يبلغه.
و(قوله: أعطيت الكنزين)، يعني به: كنز كسرى، وهو ملك الفرس، وملك قيصر، وهو ملك الروم، وقصورهما، وبلادهما، وقد دل على ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الآخر حين أخبر عن هلاكهما: (لتنفقن كنوزهما في سبيل الله، وعبر بالأحمر عن كنز قيصر؛ لأن الغالب عندهم كان الذهب، وبالأبيض عن كنز كسرى؛ لأن الغالب كان عندهم الفضة، والجوهر. وقد ظهر ذلك، ووجد كذلك في زمان الفتوح، في خلافة عمر -رضي الله عنه-، فإنه سيق إليه تاج كسرى، وحليته، وما كان في بيوت أمواله، وجميع ما حوته مملكته على سعتها، وعظمتها، وكذلك فعل الله بقيصر، لما فتحت بلاده.
و(قوله: وإني دعوت ربي لأمتي ألا يهلكها بسنة بعامة)، كذا صحت الرواية بالباء في (بعامة)، وكأنها زائدة؛ لأن عامة صفة لسنة، فكأنه قال: بسنة عامة، ويعني بالسنة: الجدب العام الذي يكون به الهلاك العام. ويسمى الجدب، والقحط: سنة، ويجمع سنين، كما قال تعالى: {ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات} أي: بالجدب المتوالي. وبيضة المسلمين: معظمهم، وجماعتهم، وفي الصحاح: بيضة كل شيء: حوزته، وبيضة القوم: ساحتهم، وعلى هذا فيكون معنى الحديث: أن الله تعالى لا يسلط العدو على كافة المسلمين، حتى يستبيح جميع ما حازوه من البلاد، والأرض، ولو اجتمع عليهم كل من بين أقطار الأرض، وهي: جوانبها.
و(قوله: حتى يكون بعضهم يهلك بعضا، ويسبي بعضهم بعضا)، ظاهر (حتى): الغاية، فيقتضي ظاهر هذا الكلام: أنه لا يسلط عليهم عدوهم فيستبيحهم، إلا إذا كان منهم إهلاك بعضهم لبعض، وسبي بعضهم لبعض. وحاصل هذا أنه إذا كان من المسلمين ذلك، تفرقت جماعتهم، واشتغل بعضهم ببعض عن جهاد العدو، فقويت شوكة العدو، واستولى، كما شاهدناه في أزماننا هذه في المشرق والمغرب، وذلك أنه لما اختلف ملوك الشرق، وتجادلوا، استولى كفار الترك على جميع عراق العجم، ولما اختلف ملوك المغرب، وتجادلوا استولت الإفرنج على جميع بلاد الأندلس، والجزر القريبة منها، وها هم قد طمعوا في جميع بلاد الإسلام، فنسأل الله أن يتدارك المسلمين بالعفو، والنصر، واللطف. ولا يصح أن يكون (حتى) هنا بمعنى كي، لفساد المعنى، فتدبره.
و(قوله: وسألته ألا يهلك أمتي بالغرق، فأعطانيها) يعني: ألا يهلك جميعهم بطوفان كطوفان نوح - عليه السلام- حتى يغرق جميعهم، وهذا فيه بعد، ولعل هذا اللفظ كان بالعدو، فتصحف على بعض الرواة لقرب ما بينهما في اللفظ، ويدل على صحة ذلك: أن هذا الحديث قد رواه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- خباب بن الأرت، وثوبان، وغيرهما، وكلهم قال: بدل الغرق المذكور في هذا الحديث: عدوا من غير أنفسهم. والله تعالى أعلم.
و(قوله: وسألته ألا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها) البأس: الحروب، والفتن، وأصله من بئس يبأس: إذا أصابه البؤس، وهو الضر، ويقال: بأسا، وضرا.
و(قوله: يا محمد إني إذا قضيت قضاء لا يرد) يستفاد منه: أنه لا يستجاب من الدعاء، إلا ما وافقه القضاء، وحينئذ يشكل بما قد روي عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: لا يرد القضاء إلا الدعاء. ويرتفع الإشكال بأن يقال: إن القضاء الذي لا يرده دعاء، ولا غيره، هو الذي سبق علم الله بأنه لا بد من وقوعه. والقضاء الذي يرده الدعاء، أو صلة الرحم، هو الذي أظهره الله بالكتابة في اللوح المحفوظ، الذي قال الله تعالى فيه: {يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب} ....اهـ.
وهذا الحديث فيه من البشائر، ودلائل النبوة ما حصل من الفتوحات، واتساع مملكة الإسلام شرقا، وغربا، وفيه أن هذه الأمة الإسلامية ضمن الله -سبحانه وتعالى- لها ألا تُهلك على يد أعدائها، وإنما يكون هلاكها على يد بعضها بسبب ما يكون بينهم من الحروب، ويدل له ما في صحيح البخاري عن جابر قال: لما نزلت هذه الآية: {قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم}. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أعوذ بوجهك). قال: {أو من تحت أرجلكم}. قال: (أعوذ بوجهك). {أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض}. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (هذا أهون، أو: هذا أيسر). اهـ.
والله أعلم.