الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فهذا الحديث صححه جمع من أهل العلم، كابن حبان، فقد أخرجه في صحيحه، وقال الحاكم في المستدرك: صحيح على شرط مسلم.اهـ. وحسنه الألباني. بينما قال شعيب الأرنؤوط: إسناده حسن، وفي متنه نكارة .اهـ. وليس المراد بالحديث قطعا أن من لا يصاب بالصداع، فهو من أهل النار، كلا!
بل المقصود بهذا الحديث، وما في معناه: أن من علامات أهل الأيمان كثرة ابتلائهم في أجسادهم بالأسقام، والأوجاع؛ تطهيرا لهم، وتكفيرا لسيئاتهم، ورفعة لدرجاتهم، وأن الكفار والمنافقين بخلاف ذلك، وليس معنى هذا أن كل مؤمن لا بد أن يكون مبتلى في جسده، ولا أن أهل الكفر والنفاق لا يبلتون أبدا؛ بل المراد: على سبيل الكثرة والأغلبية.
قال ابن حبان في صحيحه: قوله -صلى الله عليه وسلم-: (من أحب أن ينظر إلى رجل من أهل النار، فلينظر إلى هذا) لفظة إخبار عن شيء، مرادها الزجر عن الركون إلى ذلك الشيء، وقلة الصبر على ضده، وذلك أن الله ـ جل وعلاـ جعل العلل في هذه الدنيا، والغموم، والأحزان سبب تكفير الخطايا عن المسلمين، فأراد -صلى الله عليه وسلم- إعلام أمته أن المرء لا يكاد يتعرى عن مقارفة ما نهى الله عنه في أيامه، ولياليه، وإيجاب النار له بذلك، إن لم يتفضل عليه بالعفو، فكأن كل إنسان مرتهن بما كسبت يداه، والعلل تكفر بعضها عنه في هذه الدنيا، لا أن من عوفي في هذه الدنيا يكون من أهل النار. اهـ.
وفي الحديث: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: مثل المؤمن، كمثل الزرع، لا تزال الريح تميله، ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء، ومثل المنافق، كمثل شجرة الأرز، لا تهتز، حتى تستحصد. متفق عليه.
قال القرطبي في المفهم: وهذا مثل للغالب من المؤمنين، والغالب من الكافرين، وحكمة الله في ابتلاء المؤمنين في الدنيا أن يهديهم فيها، ويخلصهم من تبعاتها، وأن توفر أجورهم في الآخرة، وعكس ذلك في الكفار، والمنافقين. وفائدة هذا الحديث المصائب، والصبر عليها، وانتظار الثواب عليها، والخوف من عدم المصائب، وبسط الدنيا .اهـ.
وفي «مفتاح دار السعادة» لابن القيم:«هذا المثلَ ضُرِبَ للمؤمن، وما يلقاه من عواصف البلاء، والأوجاع، والأوجال، وغيرها، فلا يزالُ بين عافيةٍ، وبلاء، ومحنةٍ، ومِنْحَة، وصحةٍ، وسقم، وأمنٍ، وخوف، وغير ذلك، فيقعُ مرةً، ويقومُ أخرى، ويميلُ تارةً، ويعتدلُ أخرى، فيُكفَّى بالبلاء، ويُمَحَّصُ به، ويُخَلَّصُ من كَدَرِه، والكافرُ كلُّه خبثٌ، ولا يصلحُ إلا للوقود، فليس في إصابته في الدنيا بأنواع البلاء من الحكمة، والرحمة ما في إصابة المؤمن».انتهى.
وفي غاية النفع في شرح حديث «تمثيل المؤمن بخامة الزرع» لابن رجب:«في هذا فضيلة عظيمة للمؤمن بابتلائه في الدُّنْيَا في جسده بأنواع البلاء، وتمييز له عَلَى الفاجر، والمنافق بأنه لا يصيبه البلاء، حتى يموت بحاله، فيلقى الله بذنوبه كلها، فيستحق العقوبة عليها. والنصوص في تكفير ذنوب المؤمن بالبلاء والمصائب كثيرة جدًّا ....انتهى.
وفي "سنن أبي داود" عن عامر الرام قال: جلست إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فذكر الأسقام، فقال: إن المؤمن، إذا أصابه السقم، ثم أعفاه الله منه، كان كفارة لما مضى من ذنوبه، وموعظة له فيما يستقبل، وإن المنافق، إذا مرض، ثم أعفي كان كالبعير، عقله أهله، ثم أرسلوه، فلم يدر لم عقلوه، ولم أرسلوه، فقال رجل ممن حوله: يا رسول الله، وما الأسقام؟ والله ما مرضت قط. قال: قم عنا فلست منا.
وهذا كما قال للذي سأله عن الحمى، فلم يعرفها: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل النار، فلينظر إلى هذا. فجعل الفرق بين أهل الجنة، وأهل النار إصابة البلاء، والمصائب، كما جعل ذلك فرقا بين المؤمنين، والمنافقين، والفجار في هذه الأحاديث المذكورة ها هنا.
وفي "المسند" عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه ذكر أهل النار، فقال: كل شديد جعظري، هم الذين لا يألمون رءوسهم.
وفي "المسند" عن أنس أن امرأة أتت النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقالت: يا رسول الله إن ابنة لي كذا، وكذا، ذكرت حسنها، وجمالها. آثرتك بها، قال: قد قبلتها. فلم تزل تمدحها، حتى ذكرت أنها لم تصدع، ولم تشتك شيئا قط، قال: لا حاجة لي في ابنتك.
وعن الحسن قال: كان الرجل منهم، أو من المسلمين، إذا مر به عام لم يصب في نفسه، ولا في ماله قال: ما لنا أيودع الله عنا ؟ اهـ.
والله أعلم.