الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
ففصل النزاع في مسائل الميراث، والحقوق المشتركة؛ مَرَدُّهُ إلى المحاكم الشرعية، أو من ينوب منابها.
وذلك لأنها الأقدر على السماع من أطراف النزاع، وإدراك حقيقة الدعاوي والبينات والدُّفُوع، ثم إصدار الحكم المؤسس على ذلك.
وأما المفتي فإنه لا يَسْمَع إلا من طرفٍ واحد، ولن يكون تصوره للمسألة إلا بحسب ما تُتِيْحُه طريقةُ الاستفتاء، ولذلك لا يستطيع إصدار الحكم الدقيق في مثل هذه القضايا.
والذي يمكننا إفادة السائل به على وجه العموم: أن قضيته يتعلق بها مسائل في نظر القاضي. وأهمها مسألتان:
الأولى: أن قسمة المراضاة نوعان:
نوع بعد التقويم والتعديل، بحيث يرى جميع الورثة أنهم تساووا في استيعاب حقهم.
فهذا إن ثبت فيه غَبْن لأحد الورثة، فله طلب الفسخ، وإعادة القسمة.
ونوع بغير تقويم ولا تعديل، وإنما هو بالتصالح بين الورثة ورضاهم بها.
فهذا له حكم البيع، وليس لمن ظهر غبنه طلب الفسخ؛ لأنه لم يأخذ ما أخذ على أنه يعدل نصيبه من التركة، وإنما أخذه بعينه على أن يخرج بذلك عن جميع حقه.
قال القاضي ابن سهل في «الإعلام بنوازل الأحكام»: القسمة على ثلاثة أوجه:
وجهان منها يقام فيهما بالغبن، وهما: قسمة القرعة والتحريز، وقسمة المراضاة بعد التقويم والتحرير.
والوجه الثالث: لا يقام فيه بالغبن، وهو كالبيع، وهو قسمة المراضاة والمهاباة دون تقويم. اهـ.
وقال الباجي في شرح الموطأ: وأما قسمة المراضاة بعد التَّقْويم والتَّعْديل، فهو أن يعدل الأرض بقدر السهام على اختلافها، من كان له نصف مُيز له النصف، ومن كان له ثلث ميز له الثلث، ومن له السدس ميز له السدس، وإن كانت الأرض متساوية فبالذرع، وإن كانت مختلفة فبالتقويم أو بهما.
ثم يتراضون على ما خرج لكل واحد منهم، ويرون أنهم قد تساووا، وسواء كان ذلك في جنس واحد أو أجناس مختلفة متباينة، فإن ذلك كله جائز، وهذه القسمة أيضا متى ظُهر فيها على غبن في ذَرع أو قيمة، كان للمغبون المطالبة بذلك لما قدمناه.
وأما قسمة المراضاة بغير تقويم ولا تعديل، فهي أن يتراضى الشركاء على أن يأخذ كل واحد منهم ما عُيِّن له، ويتراضوا به من غير تقويم ولا تعديل.
فهذه القسمة أيضا تجوز في المختلف من الأجناس، ولا قيام فيها لمغبون؛ لأنه لم يأخذ ما صار إليه على أنه على قيمة مقدرة، ولا ذرع مقدر، ولا على أنه مماثل لجميع ما كان له، وإنما أخذه بعينه على أن يخرج بذلك عن جميع حقه سواء كان أقل منه أو أكثر.
فالضربان الأولان من القِسْمة أقرب إلى تميز الحق، وهذا الضرب أقرب إلى أنه بيع من البيوع. اهـ. بتصرف يسير.
والمسألة الثانية: هي قُرب قيام المطالب بالفسخ من وقوع القسمة، فإذا تباعد الوقت فلا ينظر في دعواه عند بعض أهل العلم.
قال الحطاب في «مواهب الجليل» عند قول خليل: وَنُظِرَ فِي دَعْوَى جَوْرٍ أَوْ غَلَطٍ، وَحَلَفَ الْمُنْكِرُ، فَإِنْ تَفَاحَشَ، أَوْ ثَبَتَا؛ نُقِضَتْ كَالْمُرَاضَاةِ إِنْ أَدْخَلا مُقَوِّمًا.
قال: أي ثبت الجور والغلط، قال أبو الحسن الصغير في أول كتاب القسمة: قال الباجي في وثائقه: إنما يرجع بالغبن في القرب، انتهى.
وقال في معين الحكام: قال بعض الأندلسيين: وأما ما يقام بالغبن فيما قرب، وأما ما بعد أمره وطال تاريخه فلا يقام فيه بغبن، انتهى.
وقال ابن سهل عن أبي إبراهيم: وَحَدُّ ذلكَ العَامُ. اهـ.
والله أعلم.