الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فقد كان قيام الدولة الإسلامية في المدينة المنورة نتيجة وثمرة لبيعة العقبة الثانية التي عقدت بين النبي صلى الله عليه وسلم ومجموعة من سادات الأوس والخزرج (الأنصار)
هذه البيعة التي عقدها ثلاثة وسبعون رجلا وامرأتان من زعماء المدينة ووجوهها، وكان من أهم بنودها بعد عبادة الله وحده لا شريك له حماية النبي صلى الله عليه وسلم من كل مكروه، والسمع والطاعة له في العسر واليسر والمنشط والمكره والأثرة، وأن لا ينازعوا الأمر أهله.
فقد ذكر غير واحد من أصحاب السير أن هذه البيعة عقدت أيام منى عند العقبة ليلا، قال كعب ابن مالك: فلما اجتمعنا في الشعب ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاء ومعه عمه العباس فتكلم القوم وقالوا: خذ منا لنفسك ولربك ما أحببت، فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلا القرآن ودعا إلى الله ورغب في الإسلام، ثم قال: أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم، فأخذ بيده البراء بن معرور وهو أحد زعمائهم، ثم قال: نعم والذي بعثك بالحق نبيا لنمنعك مما نمنع منه أزرنا، فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أبناء الحرب وأهل الحلقة والسلاح، ورثناها كابرا عن كابر.
فتدخل أبو الهيثم بن التيهان وهو أحد ساداتهم فقال: يا رسول الله: بيننا وبين الرجال اليهود حبالا وإنا قاطعوها فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: بل الدم الدم والهدم الهدم وأنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم.
ثم تكلم زعيم آخر وهو العباس بن نضلة فقال: يا معشر الخزرج: هل تدرون علام تايعون هذا الرجل؟ قالوا: نعم، قال: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس، فإن كنتم ترون أنكم إذ نهكت أموالكم مصيبة وأشرافكم قتلا أسلمتموه فمن الآن... فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكة الأموال وقتل الأشراف فخذوه فهو والله خير الدنيا والآخرة قالوا: نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف، فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا؟ قال: الجنة، قالوا: ابسط يدك فبسط يده فبايعوه، وفي رواية:والله لا نقيل ولا نستقيل.
هذا أهم ما جاء في بيعة العقبة الثانية، ملخصا من كتب السيرة وخاصة سيرة ابن هشام، وبه تعلم أن هذه البيعة قامت أساسا على نصرة الإسلام وقيام دولته وحماية نبيه صلى الله عليه وسلم وبذل النفس والنفيس لتحقيق ذلك، وبه تعلم أن أكثر من عقد هذه البيعة من السادات والزعماء وإن كان بعضهم قد تخلف عنها لأنهم كانوا على شركهم.
والله أعلم.