الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإن المراد بالمجلس الواحد في موضوع الطلاق أن يطلق الرجل امرأته ثلاثاً في مجلس واحد، سواء كان ذلك في كلمة واحدة مثل أنت طالق ثلاثاً، أو يطلقها ثلاثاً متفرقات مثل: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، يقصد بكل لفظة تأسيس طلاقٍ، وهذا النوع من الطلاق يقع عند الجمهور منهم أئمة المذاهب الأربعة، وذهب بعض العلماء إلى أنه لا يقع إلا طلقة واحدة. وهذا القول الأخير اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وقواه قال في الفتاوى ج 33 ص 8. وإن طلقها ثلاثاً في طهر واحد بكلمة واحدة أو كلمات مثل أن يقول أنت طالق ثلاثاً أو أنت طالق وطالق وطالق... ونحو ذلك من العبارات، فهذا للعلماء من السلف والخلف فيه ثلاثة أقوال، سواء كانت مدخولاً بها أم غير مدخول بها، ومن السلف من فرق بين المدخول بها وغيرها، القول الأول أنه طلاق مباح لازم، وهو قول الشافعي وأحمد في الرواية القديمة عنه الثاني أنه طلاق محرم لازم، وهو قول مالك وأبي حنيفة وأحمد في الرواية المتأخرة عنه، الثالث أنه محرم ولا يلزم منه إلا طلقة واحدة... إلى أن قال: والقول الثالث هو الذي يدل عليه الكتاب والسنة ثم ذكر حديث عكرمة عن ابن عباس الذي رواه أبو داود قال: طلق ركانة بن عبد يزيد أخو بني المطلب امرأته ثلاثاً في مجلس واحد فحزن عليها حزناً شديداً قال: فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف طلقتها قال: طلقتها ثلاثاً، فقال: في مجلس واحد؟ قال: نعم. قال: فإنما تلك واحدة فأرجعها إن شئت. قال: فكان ابن عباس يرى أن الطلاق عند كل طهر. انتهى.
قال شيخ الإسلام: وقوله صلى الله عليه وسلم: في مجلس واحد مفهومه أنه لو لم يكن في مجلس واحد لم يكن الأمر كذلك، وذلك لأنها لو كانت في مجالس لأمكن في العادة أن يكون قد ارتجعها، فإنها عنده والطلاق بعد الرجعة يقع والمفهوم لا عموم له في جانب المسكوت عنه، بل قد يقع فيه تفصيل كقوله: إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث أو لم ينجسه شيء وهو إذا لم يبلغ قلتين قد يحمل الخبث وقد لا يحمله.... الخ.
وقد أجاب الجمهور بأن حديث ركانة هذا قد جاء برواية أخرى: أنه طلق امرأته البتة بدلاً من رواية: طلق امرأته ثلاثاً، ولفظ الرواية الثانية كما في سنن أبي داود أيضاً عن عبد الله بن علي بن يزيد بن ركانة عن أبيه عن جده أنه طلق امرأته البتة، فأتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: ما أردت قال: واحدة قال: آلله. قال: هو على ما أردت. قال أبو داود: هذا أصح من حديث ابن جريج أن ركانة طلقة امرأته ثلاثاً، لأنهم أهل بيته وهم أعلم به. وحديث ابن جريج رواه عن بعض بني أبي رافع عن عكرمة عن ابن عباس، وحديث ابن جريج المذكور هو الذي ذكره شيخ الإسلام مستدلاً به.
قال النووي: واحتجوا (يعني الجمهور) بحديث ركانة أنه طلق امرأته البتة، فقال له صلى الله عليه وسلم: ما أردت إلا واحدة. قال: الله ما أردت إلا واحدة، فهذا دليل على أنه لو أراد الثلاث لوقعن وإلا لم يكن لتحليفه معنى... قال: وأما الرواية التي رواها المخالفون أن ركانة طلق ثلاثاً فجعلها واحدة، فرواية ضعيفة عن قوم مجهولين، وإنما الصحيح منها ما قدمناه من أنه طلقها البتة. انتهى.
ثم إن الجمهور لا فرق عندهم بين المجلس الواحد والمجالس المتعددة، فمتى طلق وقع الطلاق، سواء ثلاثاً أو أقل في مجلس واحد أو مجالس في طهر واحد أو غيره.
وأما المخالفون للجمهور، فلا يقع عندهم الطلاق في طهر واحد لم يرتجع فيه أكثر من طلقة، سواء طلق في مجلس واحد أو مجالس متعددة، سواء أوقع ثلاثاً في كلمة واحدة أو متفرقات، إلا في حالة ما إذا طلق ثم ارتجع ثم طلق بعد ذلك ثم ارتجع ثم طلق فتقع الثلاث باتفاق الجميع، ولمزيد الفائدة يرجى مراجعة الفتويين: 52558، 36215.
والله أعلم.