الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد: فنظرا لشدة عداوة الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم، وكثرتهم وقوتهم، وحرصهم على قتله صلى الله عليه وسلم والتخلص منه بكل وسيلة اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم الحرس في بداية الأمر كما تمليه السنن الكونية والطبيعة البشرية.. فلما نزل عليه قول الله تبارك وتعالى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ {المائدة: 67}. ترك الحرس فلم يصل إليه عدوّ بقتل ولا أسر ولا قهر.. مع كثرة الأعداء وكثرة محاولاتهم، والأمثلة على ذلك كثيرة ثابتة فمنها محاولة عمير بن وهب وصفوان بن أمية، ومحاولة عامر بن الطفيل وأربد بن قيس، ومحاولة بني قينقاع، ومحاولة اليهودية التي أشار إليها السائل الكريم، وهي ثابتة في كتب السنة، ولكن الله سبحانه وتعالى عصمه من تلك المحاولات ومن غيرها. وقد استشكل بعضهم أن اليهود سحروه ووضعوا له السم وأن قريشا شجوه وكسروا رباعيته... ولا إشكال في ذلك، فما أصابه صلى الله عليه وسلم من الآلام والأذى ... في سبيل الله إنما هو لرفع درجاته وتعظيم أجره عند الله تعالى، وليتأسى به الدعاة والعلماء المصلحون .. من بعده. فالله سبحانه وتعالى ضمن له العصمة والسلامة من القتل والأسر وزوال العقل وتلف الجملة.. حتى يبلغ رسالته ويكمل دينه. وأما عوارض الأذى فلا تمنع عصمة الجملة، ولم تكن تهم النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما كان الذي يهمه هو الخوف من القضاء على شخصه قبل أن يبلغ رسالة ربه. وعندما أكمل الله الدين لعباده وأتم عليهم نعمته بكمال تشريعه وأصبح رجال الإسلام الذين تعهدهم النبي صلى الله عليه وسلم بالتربية قادة قادرين على حمل الدين وتبليغه أجرى الله تعلى على نبيه صلى الله عليه وسلم سنته الماضية في خلقه، كما قال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ {آل عمران: 185}. وبدأ النبي صلى الله عليه وسلم يحس بأن مهمته في هذه الحياة قد انتهت، وأنه بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح للأمة، وجاهد في الله حق جهاده... فأشار إلى ذلك في حجة الوداع عندما خطب في تلك الجموع الحاشدة، فبين لهم شرائع الإسلام وأو صاهم وصية مودع.. وقال: لعلي لا ألقاكم في موضعي هذا بعد عامي هذا !. فلم يكن موته صلى الله عليه وسلم فجأة ولا بسبب قتل أو اغتيال وإنما كانت موتة طبيعية بسبب الحمى والصداع الذي كان من أسبابه آثار تلك الأكلة المسمومة التي تناولها بخيبر، فلم تؤثر عليه في ذلك الوقت، فقاد الجيوش بعد ذلك ودخل المعارك الكبرى وانتصر فيها، وفاوض الأعداء، واستقبل الوفود، ومارس حياته العادية اليومية بصورة طبيعية حتى وافاه الأجل المحتوم بصورة طبيعية. وتأثير السم عليه بعد ذلك عند نهاية الأجل إنما هو لرفع درجاته وعلو منزلته عند الله تعالى، ولينال بذلك مقام الشهداء. وبهذا نعلم أنه لا تعارض بين عصمة الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم، وبين ما لقيه صلى الله عليه وسلم من الأذى.