الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فالذي يظهر لنا - والله أعلم- هو عدم جواز ذلك العمل لعدة اعتبارات:
الأول: أن هذه المقبرة تحتوي على قبور كفار يعذبون، وما كان كذلك فلا يجوز الدخول إليه، إلا على جهة الاتعاظ والاعتبار، كما لا يجوز اللبث فيه، ففي الصحيحين عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: مررنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحجر، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين حذراً أن يصيبكم مثل ما أصابهم، ثم زجر فأسرع حتى خلفها. وفي رواية البخاري: لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم، لا يصيبكم ما أصابهم.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري: فيه الزجر عن السكن في ديار المعذبين والإسراع عند المرور بها.
فإذا كان المسلم منهيا عن دخول مساكنهم إلا على جهة الاعتبار، فكيف بدخول مقابرهم؟ ولذا استدل أهل العلم بهذا الحديث على تحريم أو كراهة طلب الكنوز في قبور الكفار، قال الإمام القرافي في الذخيرة: وكره مالك طلب الكنوز في قبور الجاهلية لقوله عليه السلام: لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا وأنتم باكون، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم، أو خشية مصادفة قبر نبي أو رجل صالح.
وقال الإمام النووي في المجموع:(فرع) في نبش قبور الكفار لطلب المال المدفون معهم، قال القاضي عياض في شرح صحيح مسلم: اختلف العلماء في ذلك فكرهه مالك وأجازه أصحابه. قال: واختلف في علة كراهته فقيل: مخافة نزول عذاب عليهم وسخط، لأنها مواضع العذاب والسخط، وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم: نهى عن دخول ديار المعذبين، وهم ثمود -أصحاب الحجر- خشية أن يصيب الداخل ما أصابهم قال: إلا أن تكونوا باكين. فمن دخلها لطلب الدنيا فهو ضد ذلك، وقيل: مخافة أن يصادف قبر نبي أو صالح بينهم.
وقال الإمام أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي في مختصر اختلاف العلماء: وقال الأوزاعي: لا يفعل -أي نبش قبور الكفار طلباً للمال- لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما مر بالحجر سجا ثوبه على رأسه واستحث راحلته ثم قال: لا تدخلوا بيوت الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تدخلوها وأنتم باكون مخافة أن يصيبكم ما أصابهم، فقد نهى أن يدخلوها عليهم وهي بيوتهم، فكيف يدخلون قبورهم. فهذه النقول تبين أن أهل العلم لم يخصصوا النهي في الحديث بمساكن ثمود أو نحوهم ممن استؤصلوا بعذاب في الدنيا، بل عمموا النهي في كل مواضع العذاب، سواء كان عذاباً دنيوياً أو برزخياً.
الثاني: أنه لا يخفى أن الكفار يحيطون مقابرهم برموز دينهم من الصلبان وغيرها، فالعمل في هذه المكان يستلزم ترك إنكار المنكر، وقد قال صلى الله عليه وسلم: من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان. رواه مسلم.
الثالث: أن العمل في جمع أوراق الأشجار الساقطة على القبور، وتنظيف أفنية القبور منها -وإن افترضنا أنه مباح في الأصل، فإنه لا يجوز أن يمتهنه المسلم للكافر، لأن فيه إذلالاً للمسلم وتعظيماً للكافرين، ومثل هذا يمنع منه المسلم، وراجع الفتوى رقم: 7112.
ومحل ما تقدم من عدم جواز هذا العمل هو ما إذا لم تكن مضطراً إليه بحيث إذا تركته لم تجد ما تأكل أو ما تشرب ونحو ذلك، فإذا كنت مضطراً على هذا النحو جاز لك العمل حتى تجد عملاً آخر تندفع به الضرورة، لعموم قوله تعالى: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ {الأنعام:119}.
والله أعلم.