الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإن المال المذكور يعتبر تركة لورثة الميت الموهوب له، فيوزع عليهم جميعاً كل حسب نصيبه المقدر في كتاب الله تعالى، ولا يحق للزوجة والبنت أخذه دون غيرهما من الورثة إلا إذا تنازل لهم بقية الورثة عن نصيبهم بطيب أنفسهم وكانوا رشداء بالغين، وأهلاً للتصرف.
قال مالك في الموطأ: من أعطى عطية لا يريد ثوابها ثم مات المعطَى فورثته بمنزلته. وهو ما درج عليه ابن أبي زيد المالكي في الرسالة حيث قال: ولو مات الموهوب له كان للورثة القيام فيها على الواهب.
وعلى ذلك فلا دخل للمحسنين في هذا المال لأنهم وهبوا هبة تامة، وأصبح المال خارج ملكهم، هذا هو الأصل إلا إذا كانوا خصصوا المال بالعلاج دون غيره، واشترطوا أنه إذا لم يصرف في العلاج يعود إليهم، أو خصوا به الموهوب دون غيره، فلهم الحق فيه بالرجوع أو الهبة لشخص آخر من ورثة الميت أو من غيرهم، قال النفراوي المالكي في شرح الرسالة: ... إلا إذا كان الواهب خص بها الموهوب له بعينه بأن قال: هي لفلان دون غيره ودون ورثته... فإنها تبطل بموت الموهوب له.
وفي هذه الحالة: فمن خص منهم الزوجة والبنت فإن ذلك يكون في نصيبه دون غيره، وهذا نعني حق الرجوع للواهبين ما لم يكن الموهوب له قد وكل الجامعين لهذا المال بالقبض عنه فإنهم حينئذ يقومون مقامه، وليس للواهب الرجوع في هبته بعد قبض الموهوب له للهبة بإذنه، وعلى اعتبار أن المال تركة -وهو الأصل كما أشرنا- فإنه يصرف منه على تجهيز الميت ودفنه.... وما بقي تقضى منه ديونه ثم وصاياه إن كانت له وصية أو عليه دين -كما هو الحال في تركة كل ميت، ولا يحتاج ذلك إلى استشارة المساهمين لأن المال أصبح ملكاً للميت بتمام الهبة يستوي في ذلك من علمتم منهم ومن لم تعلموا، لأن من وهب شيئاً في هذه الحالة لا يرجع فيه عادة، وما بقي بعد ذلك يقسم على جميع الورثة كبقية ممتلكات الميت فيضم إليها.
والورثة هنا -إن كان أقارب الميت محصورين فيمن ذكرت- هم: الزوجة والبنت والأب، ولا شيء للإخوة لأنهم محجوبون بالأب، وتفصيل ذلك أن للزوجة الثمن فرضا لوجود الفرع الوارث، لقول الله تعالى: فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم {النساء:12}، وللبنت النصف فرضا لانفرادها، قال الله تعالى: وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ {النساء:11}، وما بقي بعد فرض الزوجة والبنت فللأب بالفرض والتعصيب، وعلى ذلك فالمسألة من أربعة وعشرين، للزوجة ثمنها ثلاثة، وللبنت نصفها اثنا عشر، وللأب سدسها فرضاً أربعة، والباقي وهو خمسة للأب أيضاً تعصيباً.
ثم إننا ننبه السائل الكريم إلى أن أمر التركات أمر خطير جداً وشائك للغاية وبالتالي فلا يمكن الاكتفاء فيه ولا الاعتماد على مجرد فتوى أعدها مفت طبقاً لسؤال ورد عليه، بل لا بد من أن ترفع للمحاكم الشرعية كي تنظر فيها وتحقق، فقد يكون هناك وراث لا يطلع عليه إلا بعد البحث، وقد تكون هناك وصايا أو ديون أو حقوق أخرى لا علم للورثة بها، ومن المعروف أنها مقدمة على حق الورثة في المال، فلا ينبغي إذاً قسم التركة دون مراجعة المحاكم الشرعية إذا كانت موجودة، تحقيقاً لمصالح الأحياء والأموات.
والله أعلم.