الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فقد اختلف أهل التفسير وعلماء اللغة في تخريج التذكير في قوله (قريب) لأنه خبر للرحم: وهي مؤنثة، قال الزجاح: والأصل في المذكر والمؤنث أن يجريا على أفعالهما، ولذا فإن الرحمة هنا مؤولة بالرحم لكونها بمعنى العفو والغفران ورجحه النحاس، وقال الأخفش: أراد بالرحمة هنا المطر وتذكير بعض المؤنث جائز ومسموع ومنه قول الشاعر: فلا مزنة ودقت ودقها * ولا أرض أبقل إبقالها.
وقال النضر بن شميل: الرحمة مصدر بمعنى الترحم وحق المصدر التذكير.
وقال الجوهري: تأنيث الرحمة هنا غير حقيقي فجاز في خبرها التذكير.
والتأنيث لا يلزم إلا في النسب، وأما المسافات والأوقات بذلك المعنى إذا وقعت أخباراً للاسماء أجرتها العرب مجرى الحال فوحدتها مع الواحد والاثنين والجمع وذكرتها مع المؤنث، فيقولون كرامة الله بعيد من فلان، ومن هذا الباب وهو التذكير في الأوقات قوله تعالى: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا {الأحزاب:63}، ومن التذكر في المسافة قول الشاعر امرئ القيس:
لك الويل إن أمسي ولا أم هاشم * قريب ولا السبابة ابنة يشكرا
وقول عروة بن الورد: عشية لا عفراء منك قريبة * فتدنوا ولا عفراء منك بعيد
ومما قيل في تخريج ذلك أيضاً أنه على حذف مضاف أي أن مكان رحمة الله قريب ، فالإخبار إنما هو عن المكان وهو مذكر ومنه وقول حسان بن ثابت رضي الله عنه:
يقون من ورد البريص عليهم * بردى يصفق بالرحيق السلسل. فذكر يصفق مع أن بردى مؤنث والتقدير ماء بردى.
وقيل بأن ذلك على حذف الموصوف أي شيء قريب ومنه قول الشاعر:
قامت تبكيه على قبره * من لي من بعدك يا عافر
تركتني في الدار ذا غربة * قد ذل من ليس له ناصر أي شخصا ذا غربة.
وقال ابن جبير: الرحمة هنا بمعنى الثواب وفسرها بعضهم بالإحسان لمكان المحسنين، كما في قوله تعالى: هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ.
قال ابن هشام: لا بعد في أن يقال: أن التذكير في الآية الكريمة لمجموع أمور من الأمور المذكورة واختار أنه لما كان المضاف يكتسب من المضاف إليه التذكير وكانت الرحمة مقاربة للرحم في اللفظ وقريب على صيغة فعيل وهو إن كان بمعنى فاعل قد يحمل على فعيل بمعنى مفعول جاء التذكير.
وقد جرى في هذه الآية بحث طويل بين ابن مالك والروذراوري وهو مبسوط في كتب اللغة لمن أراد الرجوع إليه.
وذكر الألوسي في تفسيره: روح المعاني ثلاثة عشر تخريجا لذلك ثم قال: والذي اختاره أن فعيلا هنا بمعنى فاعل لا بمعنى مفعول لأن الرحمة صفة ذات، وصفات الذات لا يحسن الإخبار عنها بأنها مقربة.
وخلاصة القول أن العلماء قد اختلفوا في تخريج التذكير للصفة في تلك الآية وكتبوا في ذلك وحشدوا من الأدلة ما ذكرنا لك طرفا منه، وهذا كله إنما يدل على بلاغة القرآن وإعجازه ،فلا يبعد أن يكون التذكير إنما سيق ليشمل مجموع ما ذكر، كما قال ابن هشام.
والله أعلم.