الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإن انتقاد هذا الأخ للإمام في الحال المذكورة مخالف للصواب؛ لما فيه من عدم احترام الإمام القارئ للقرآن والاعتراض عليه فيما لم يكن محل إجماع ولم يكن فيه نص من وحي ثابت .
وما فعله القارئ من الإتيان بآيات من البقرة يدل لفضله ما أخرجه الحاكم في المستدرك والترمذي في سننه عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رجلاً قال: يارسول الله أي الأعمال أفضل؟ قال: الحال المرتحل. قال: يارسول الله، وما الحال المرتحل؟ قال: يضرب من أول القرآن إلى آخره ومن آخره إلى أوله . وقد ذكر صاحب النهاية في تفسير هذا الحديث أن في حديث أنس أنه سئل أي الأعمال أفضل؟ فقال: الحال المرتحل. قيل: وما ذاك؟ قال: الخاتم المفتتح. وهو الذي يختم القرآن بتلاوته ثم يفتتح التلاوة من أوله شبهه بالمسافر يبلغ المنزل فيحل فيه ثم يفتتح سيره أي يبتدئه . وقد ذكر المباركفوري في شرح الترمذي رواية مثل ذلك عن ابن عباس، وقد نص على سنية هذا الأمر إستناداً للحديث المذكور .
قال السيوطي في الإتقان : يسن إذا فرغ من الختمة أن يشرع في أخرى عقب الختم لحديث الترمذي وغيره . ثم ذكر حديث الترمذي السابق وقال : وأخرج الدارمي بسند حسن عن ابن عباس عن أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ قل أعوذ برب الناس افتتح من الحمد ثم قرأ من البقرة إلى أولئك هم المفلحون .
وقد خالف ابن القيم في هذا فذكر في إعلام الموقعين أن هذا لم يفعله أحد من الصحابة والتابعين ولا استحبه أحد من الأئمة. ولكن هذا يعارضه ما ذكر من الآثار إضافة إلى ما ذكر صاحب النهاية من كونه عمل قراء أهل مكة .
وأما موضع الإسرار بالبسملة في الصلاة فإنه ليس مذهب مالك وحده بل هو مذهب الإمام أبي حنيفة والإمام أحمد، ومستندهم في ذلك ما ثبت من الهدي النبوي في ذلك . هذا إذا كان القارئ يسر بها كما هو حال كثير من الأئمة . وأما تركها بالكلية فهو مرجوح . وراجع الفتوى رقم : 36312 ، والفتوى رقم : 27038 .
ثم إن الخلط بين القراءات فيما ليس فيه ارتباط بين الكلمات كترك البسملة بين السورتين في حال الوصل الذي قرأ به حمزة وبعض القراء ، والقراءة بالواو في كفواً ، وبنصب حمالة الذي قرأ به حفص ، فإنه لا يوصف بعدم الجواز؛ إذ لا يترتب عليه إخلال بالمعاني ولا بالإعراب وهذا هو سبب منع الخلط بين الروايات .
قال السيوطي في الإتقان : قال ابن الصلاح والنووي : إذا ابتدأ بقراءة أحد من القراء فينبغي ألا يزاد على تلك القراءة ما دام الكلام مرتبطاً، فإذا انقضى ارتباطه فله أن يقرأ بقراءة أخرى، والأولى دوامه على الأولى في هذا المجلس . وقال غيره بالمنع مطلقاً . قال ابن الجزري : والصواب أن يقال إن كانت إحدى القراءتين مرتبة على الأخرى منع ذلك منع تحريم كمن يقرأ: فتلقى آدم من ربه كلمات برفعهما أو نصبهما أخذ رفع آدم من قراءة غير ابن كثير ورفع كلمات من قراءته ونحو ذلك مما لايجوز في العربية واللغة ، وما لم يكن كذلك فرق فيه بين الرواية وغيرها فإن كان على سبيل الرواية حرم أيضاً لأنه كذب في الرواية وتخليط ، وإن كان على سبيل التلاوة جاز . انتهى كلام السيوطي . وراجع الفتوى رقم : 61325 مع إحالاتها .
وأما تلفيق المذاهب فالراجح كما ذكر غير واحد من أهل العلم جوازه، واحتجوا بإجماع السلف على أن من استفتى أبا بكر وعمر فله أن يستفتي غيرهما من صغار الصحابة ، وأن من استفتى أحدا من الأئمة الفقهاء فله أن يستفتي غيره، ومن ادعى خلاف ذلك فعليه الدليل . قال القرافي في الذخيرة : انعقد الإجماع على أن من أسلم فله أن يقلد من شاء من العلماء من غير حجر، وأجمع الصحابة رضوان الله عليهم على أن من استفتى أبا بكر وعمر رضي الله عنهما أو قلدهما فله أن يستفتي أبا هريرة ومعاذ بن جبل وغيرهما ويعمل بقولهما من غير نكير، فمن ادعى رفع هذين الإجماعين فعليه الدليل .
والله أعلم .