الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإنه يتعين عليك البعد عن الجدل بغير تحقيق ومعرفة تامة لموضوع النزاع ، فإن الجدل بغير علم من علامات الضلال، وربما أوقع في التقول على الله ، وفي الحديث الذي رواه أحمد عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل ، ثم قرأ: ما ضربوه لك إلا جدلاً . ورواه الترمذي وابن ماجه وقال الترمذي: حديث حسن صحيح
وقد ثبت في الكتاب والسنة النهي عن القول على الله بغير علم ، والجدل بغير علم ، وأن يقال على الله غير الحق كما في قوله تعالى : قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ {الأعراف: 33} وقوله سبحانه : وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ {الإسراء: 36} وقوله : أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ {الأعراف: 169} وقوله : لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ {النساء: 171}
ثم اعلم أن غاية خلق الإنسان في هذه الحياة قد أوضحه الله فقال : وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ {الذاريات : 56} قال الحافظ ابن كثير في تفسيره لهذه الآية : أي إنما خلقتهم لآمرهم بعبادتي لا لاحتياجي إليهم . فواجب العبد وغايته في هذه الحياة هو التحلي الكامل بصفة العبودية التي هي شرف للعبد وتاج يفتخر به أمام العالمين ، وكل عبد في الدنيا مبتلى هل يستقيم على الطاعة أم ينحرف؟ قال تعالى : الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ {الملك: 2} وقال تعالى : إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا {الإنسان: 2 ـ 3}
فشرف الإنسان إنما هو في العبودية لله وهي المعنى الذي أوجد لأجله ، ودناءته بفقدان ذلك الفعل منه ، فمن لا يصلح لخلافة الله تعالى ولا لعبادته ولا لعمارة أرضه فالبهيمة خير منه ، ولذلك قال الله في ذم الذين فقدوا هذه الفضيلة : أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ {الأعراف: 179}
ويتعين التنبه إلى بعض الأمور :
1 ـ العبادة حق لله الخالق العظيم، فحقه علينا هو عبادته والتسليم له والانقياد لأمره ، وهو حق استحقه بمقتضى ربوبيته وألوهيته وكماله ، ولو لم تأت الرسل من عنده آمرة بعبادته لاستحق أن يُعبد ويُعظم لذاته لا لشيء زائد . وفي الصحيحين من حديث معاذ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله ؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً ، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً .
2 ـ العبادة تحرير الإنسان من عبادة غير الله ، فإن الله تعالى قضى أن من ترك عبادته عبد غيره ، هذا الغير قد يكون حجراً أو قمراً أو هوى أو حزباً أو فكراً أو كاهناً أو معشوقاً أو شهوة .
3 ـ أن العبادة سبب لطمأنينة النفس وانشراح الصدر وارتياح القلب، فالإنسان محتاج للعبادة لما فيها من منافع عائدة على نفسه، وأما الله فغني عن عبادة العالمين .
وأما الاحتجاج بكونه سبحانه يعلم مصير كل فرد من مخلوقاته فهذا أمر طبيعي للإله القادر العليم ، وكيف يكون رباً للأشياء وهو لا يعلم مصيرها ولا ما تؤول إليه ؟! وهو الذي يفعل ما يشاء كيف يشاء لا دخل لأحد من خلقه في فعله جل وعلا ، قال تعالى : لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ {الأنبياء: 23}
ثم إن في إيجاد الإنس والجن وابتلائهم بالتكاليف ثم مجازاتهم على أعمالهم ظهورا لآثار أسماء الله الحسنى وصفاته العلى ، فهو الخالق الرازق المحيي المميت ، وهو الرحمن الرحيم ، والحكيم العليم ، هو ناصر المؤمنين ومخزي الكافرين ، وهو الديان الذي يحاسب عباده ويجازيهم على أعمالهم ، وهو المنتقم الجبار ، الذي ينتقم لأوليائه من أعدائه ، وهو الموصوف بكمال العدل والإحسان جل وعلا .
وأما قياس العابد على الأجير في الشركة فهو قياس مع وجود الفارق لأن العبد مملوك مربوب لله تعالى خلقه للعبادة . وقد رباه وأسبغ عليه نعمه لينقاد له، قال الله تعالى : كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ {النحل:81} ولم يكلفه إلا بما في طاقته؛ كما قال تعالى : لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا {البقرة: 286} وقال تعالى: وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ {الأعراف: 42}
فهل يعقل قياس الرب الذي خلقنا والذي نحتاج إليه في وجودنا ورزقنا وحفظنا ورعايتنا على شركة قد تتركها وتجد عوضاً عنها ؟! هل يعقل قياس من نعيش بنعمه ونعقل بها ونبصر بها ونسمع بها على مخلوق لا حول له ولا قوة ولا يملك نفعاً ولا ضراً ؟!
فالعبد من حيث التعامل مع الله تعالى عبد مربوب مملوك قد أنعم الله عليه بعبادات يسيرة سهلة لا تتجاوز وسعه وطاقته، وبهذه العبادات يظفر العبد بالحياة الطيبة في الدنيا، وبالرضوان ورؤية الله ودخول الجنة والسلامة من النار ومساكنة الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين في الآخرة .
وأما الاحتجاج بأن الله تعالى ركب في الإنسان الشهوات وحرمها عليه.. فإنه يرد عليه بأن الله تعالى ما حرم شيئاً إلا أباح ما يعف عنه ويعوضه. فقد حرم الزنا وأباح الزواج، وشرع الصوم لكبح النفس عن نزواتها ، وحرم الاعتداء على أموال الناس وأباح التكسب بالطرق المشروعة كالبيع والإجارة والزراعة .
وأما الوالدان فهما أعظم الناس حقا على الولد وأعظمهم عطفاً عليه، فالواجب برهما والإحسان إليهما والحرص على رضاهما مهما كان حالهما، فقد أخرج الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك ، قال ثم من؟ قال: أمك ، قال: ثم من؟ قال: أمك ، قال: ثم من؟ قال: أبوك .
وفي الحديث : رضا الله في رضا الوالد وسخط الله في سخط الوالد . رواه ابن حبان والحاكم وحسنه الألباني
والله أعلم .