الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فقد ذهب جمهور السلف والخلف إلى جواز رواية الحديث بالمعنى إذا كان الراوي عارفاً بدقائق الألفاظ بصيراً بمقدار التفاوت بينها خبيراً بما يحيل معانيها, فإذا أبدل اللفظ الذي بلغه بلفظ آخر يقوم مقامه بحيث يكون معناه مطابقاً لمعنى اللفظ الذي بلغه جاز ذلك.
قال السيوطي في تدريب الراوي: وقال جمهور السلف والخلف من الطوائف منهم الأئمة الأربعة: يجوز بالمعنى في جميعه إذا قطع بأداء المعنى، لأن ذلك هو الذي تشهد به أحوال الصحابة والسلف، ويدل عليه روايتهم القصة الواحدة بألفاظ مختلفة.
واستدل الجمهور على ذلك بعدة أدلة، ذكر بعضها الخطيب البغدادي في كتابه الكفاية في علم الرواية، فقال: ويدل على ذلك أيضاً اتفاق الأمة على أن للعالم بمعنى خبر النبي صلى الله عليه وسلم وللسامع بقوله أن ينقل معنى خبره بغير لفظه وغير اللغة العربية، وأن الواجب على رسله وسفرائه إلى أهل اللغات المختلفة من العجم وغيرهم أن يرووا عنه ما سمعوه وحملوه مما أخبرهم به وتعبدهم بفعله على ألسنة رسله؛ سيما إذا كان السفير يعرف اللغتين فإنه لا يجوز أن يكل ما يرويه إلى ترجمان وهو يعرف الخطاب بذلك اللسان لأنه لا يأمن الغلط وقصد التحريف على الترجمان فيجب أن يرويه بنفسه. وإذا ثبت ذلك صح أن القصد برواية خبره وأمره ونهيه إصابة معناه وامتثال موجبه دون إيراد نفس لفظه وصورته, وعلى هذا الوجه لزم العجم وغيرهم من سائر الأمم دعوة الرسول إلى دينه والعلم بأحكامه, ويدل على ذلك أنه إنما ينكر الكذب والتحريف على رسول الله صلى الله عليه وسلم وتغيير معنى اللفظ , فإذا سلم راوي الحديث على المعنى من ذلك كان مخبراً بالمعنى المقصود من اللفظ وصادقاً على الرسول صلى الله عليه وسلم، وبمثابة من أخبر عن كلام زيد وأمره ونهيه وألفاظه بما يقوم مقام كلامه وينوب منابه من غير زيادة ولا نقصان، فلا يعتبر في أن راوي ذلك قد أتى بالمعنى المقصود وليس بكاذب ولا محرف, وقد ورد القرآن بمثل ذلك؛ فإن الله تعالى قص من أنباء ما قد سبق قصصا كرر ذكر بعضها في مواضع بألفاظ مختلفة والمعنى واحد، ونقلها من ألسنتهم إلى اللسان العربي وهو مخالف لها في التقديم والتأخير والزيادة والنقصان ونحو ذلك.
واشتراط علم الرواي بمعاني الحديث حيث يروي بالمعنى شرط لا بد منه، وهو داخل في شرط الضبط الذي يشترط في راوي الحديث الصحيح؛ كما ذكرت كتب مصطلح الحديث كتدريب الراوي للسيوطي وغيره.
وعلى هذا.. فإن القول بأن أكثر الأحاديث مروية بالمعنى غير بعيد، إلا أن العلماء استثنوا الألفاظ المتعبد بها كالأذكار والأدعية المأثورة وجوامع الكلم والكتب المصنفة، قال السيوطي في تدريب الراوي: ولا شك في اشتراط أن لا يكون مما تعبد بلفظه..... وعندي أنه يشترط أن لا يكون من جوامع الكلم.
وقال ابن الصلاح في المقدمة: ليس لأحد أن يغير لفظ شيء من كتاب مصنف ويثبت بدله فيه لفظاً آخر بمعناه، فإن الرواية بالمعنى رخص فيها من رخص لما كان عليهم في ضبط الألفاظ والجمود عليها من الحرج والنصب، وذلك غير موجود فيما اشتملت عليه بطون الأوراق والكتب؛ ولأنه إن ملك تغيير اللفظ فليس يملك تغيير تصنيف غيره.
والله أعلم.