الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فقد أجمع العلماء على وجوب نفقة الوالدين المعسرين على ولدهما بما فضل عن قوته وقوت زوجته أو زوجاته . قال ابن المنذر : أجمع العلماء على وجوب نفقة الوالدين اللذين لا كسب لهما ولا مال ، سواء أكان الوالدان مسلمين أو كافرين ، وسواء كان الفرع ذكرا أو أنثى ، لقوله تعالى : وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا {لقمان: 15} .
والذي يظهر من السؤال -إن كان الواقع كما ذُكر-: أن هذين الوالدين غير معسرين ، وأن لهما من المال ما ينفقانه على نفسيهما ، فلذا لا تجب نفقتهما على ولدهما ، إلا أن النفقة عليهما من تمام الإحسان إليهما ولو كانا غير محتاجين؛ لأن النفقة على الوالدين من أفضل النفقات وأعظمها أجراً عند الله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن أطيب ما أكلتم من كسبكم ، وإن أموال أولادكم من كسبكم ، فكلوا هنيئاً . رواه أحمد والترمذي وابن ماجه ، وصححه الألباني وشعيب الأرناؤوط .
وقد وصى الله تعالى بالإحسان إلى الوالدين فقال سبحانه : وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا {الإسراء: 23} وما ذكر في السؤال من الإحسان إليهما.
فالذي نوصي به الابن هو الحرص على رضا الوالدين بكل ما أمكنه ، ولو أدى ذلك إلى أن يستدين بعض المال لهذا الغرض؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : رضا الرب في رضا الوالدين ، وسخطه في سخطهما . رواه الطبراني من حديث عبد الله بن عمرو ، وصححه الألباني .
وليس لزوجته حق في منعه من الصدقة والإنفاق على والديه وأخته ، بل ينبغي أن تشجعه على ذلك ، وأن تعينه عليه إن كانت فعلاً تحبه وتحب له الخير ، فإن في إحسانه لهم صلاحاً له في دينه ودنياه ؛
أما في دينه : فإن صلة الرحم من أحب الأعمال إلى الله تعالى ، ففي الحديث عن رجل من خثعم قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو في نفر من أصحابه ، فقلت : أنت الذي تزعم أنك رسول الله ؟ قال: نعم ، قال : قلت : يا رسول الله ! أي الأعمال أحب إلى الله ؟ قال : الإيمان بالله ، قال : قلت : يا رسول الله ! ثم مه ؟ قال : ثم صلة الرحم ، قال : قلت : يا رسول الله ! ثم مه ؟ قال : ثم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، قال : قلت : يا رسول الله ! أي الأعمال أبغض إلى الله ؟ قال : الإشراك بالله ، قال : قلت : يا رسول الله ! ثم مه ؟ قال : ثم قطيعة الرحم ، قال : قلت : يا رسول الله ! ثم مه ؟ قال : ثم الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف . قال الإمام المنذري : رواه أبو يعلى بإسناد جيد .
وأما في دنياه : فسعة الرزق وطول الأجل ؛ قال صلى الله عليه وسلم : من أحب أن يبسط له في رزقه ، وينسأ له في أثره فليصل رحمه . متفق عليه
هذا إن استطاع هذا الرجل الجمع بين العطاء لوالديه والنفقة الواجبة عليه لزوجته وأبنائه ، فإن لم يستطع فإن المقدم حينئذ هو نفقة الزوجة والأبناء ، لأن الفقهاء قد نصوا على ذلك ، فقد قال صاحب كشاف القناع ممزوجاً بمتن الإقناع : ويبدأ من لم يفضل عنه ما يكفي جميع من تجب نفقتهم بالإنفاق على نفسه ، فإن فضل عنه نفقة واحد فأكثر بدأ بامرأته ؛ لأنها واجبة على سبيل المعاوضة ؛ فقدمت على المواساة .
واستدلوا على ذلك بحديث جابر الذي أخرجه مسلم في صحيحه وفيه : إذا أعطى الله أحدكم خيراً فليبدأ بنفسه وأهل بيته . وبحديث ثوبان بن بجدد مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : قال صلى الله عليه وسلم : أفضل دينار ينفقه الرجل دينار ينفقه على عياله ، ودينار ينفقه على دابته في سبيل الله ، ودينار ينفقه على أصحابه في سبيل الله . رواه مسلم
قال المناوي في فيض القدير : ومقصود الحديث الحث على النفقة على العيال وأنها أعظم أجراً من جميع النفقات كما صرحت به رواية مسلم : أعظمها أجراً الذي أنفقته على أهلك . والنفقة الواجبة على الزوج تجاه زوجته وضحناها في الفتوى رقم : 50068 ، وللمزيد من الفائدة راجع الفتوى رقم : 51137 .
والله أعلم .