الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فهذه القصة مذكورة في كتب التاريخ ذكرها ابن عبد البر في الاستيعاب، والحافظ ابن كثير في البداية والنهاية وقال معللا: وكان سبب عزله إياه أن الخوارج من المصريين كانوا محصورين من عمرو بن العاص مقهورين معه لا يستطيعون أن يتكلموا بسوء في خليفة ولا أمير، فما زالوا حتى شكوه إلى عثمان لينزعه عنهم ويولي عليهم من هو ألين منه، فلم يزل ذلك دأبهم حتى عزل عمرا عن الحرب وتركه على الصلاة، وولى على الحرب والخراج عبد الله بن أبي سرح...اهـ.
ولم يكن المصريون كارهين لولاية عبد الله بن أبي سرح إذ ولي عليهم لرغبتهم في ذلك. ولم نقف فيما اطلعنا عليه من كتب التاريخ على أن النبي صلى الله عليه وسلم مات وهو غير راض عنه، ولا أن عمرو بن العاص طلق أخت عثمان بسب عزله إياه.
وهنا ننبه السائل الكريم إلى أن الحديث عما شجر بين الصحابة وإثارته ومحاكمتهم على ما كتبه المؤرخون، من الأمور الشنيعة التي يجب على المسلم أن ينأى عنها؛ لأن ذلك إذا لم يضره فلن ينفعه، وقد يجد في نفسه على بعضهم أو يراه ظالما فيتنقص من شأنه وهو خلاف ذلك؛ وإن كانوا بشرا ليسوا معصومين يجوز عليهم ما يجوز على غيرهم من البشر إلا أن مكانتهم عظيمة ومنزلتهم رفيعة، وقد نهى صلى الله عليه وسلم أن يُتَخذوا غرضا كما عند الترمذي وغيره، وأخرج الهيثمي في كتابه مجمع الزوائد من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا ذكر أصحابي فأمسكوا. وعن أبي راشد رحمه الله تعالى قال: جاء رجال من أهل البصرة إلى عبيد بن عمير قالوا: إن إخوانك أهل البصرة يسألونك عن علي وعثمان فقال: وما أقدمكم شيء غير هذا؟ قالوا: نعم قال: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ. رواه الطبراني ورجاله ثقات.
قال العيني في عمدة القاري: والحق الذي عليه أهل السنة الإمساك عما شجر بين الصحابة وحسن الظن بهم والتأويل لهم، وأنهم مجتهدون متأولون لم يقصدوا معصية ولا محض الدنيا، فمنهم المخطئ في اجتهاده والمصيب، وقد رفع الله الحرج عن المجتهد المخطئ في الفروع، وضعف أجر المصيب.اهـ.
ولابن القيم كلمة نحوها في كتابه اجتماع الجيوش الإسلامية ومنها قوله: ونعتقد أن خير هذه الأمة القرن الأول وهم الصحابة رضي الله عنهم، وخيرهم العشرة الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة ، وخير هؤلاء العشرة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم ، ونعتقد حب آل محمد صلى الله عليه وسلم ، وأزواجه وسائر أصحابه رضوان الله عليهم، ونذكر محاسنهم، وننشر فضائلهم ، ونمسك ألسنتنا وقلوبنا عن التطلع فيما شجر بينهم ، ونستغفر الله لهم.اهـ
ونختم هذا التنبيه بما ذكر في الدرر السنية من الأجوبة النجدية جوابا لمن سأل عما وقع بين الصحابة: وسئلوا عن الحروب التي وقعت بين الصحابة، رضي الله عنهم؟ فأجابوا: وأما الحروب التي وقعت بين الصحابة، فالصواب فيها : قول أهل السنة والجماعة ؛ وهو الذي نعتقده ديناً ونرضاه مذهباً؛ وهو: السكوت عما شجر بينهم، والترضي عنهم، وموالاتهم ومحبتهم كلهم، رضوان الله عليهم أجمعين؛ وذلك: أن الله تبارك وتعالى، أخبر أنه قد رضي عنهم، ومدحهم في غير آية من القرآن؛ وإنما فعلوا ما فعلوه من الحروب والقتال بتأويل ، ولهم من الحسنات العظيمة الماحية للذنوب ما ليس لغيرهم. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة النبوية: فإذا تشاجر مسلمان في قضية ومضت ولا تعلق للناس بها ولا يعرفون حقيقتها كان كلامهم فيها كلاما بلا علم ولا عدل يتضمن أذاهما بغير حق ولو عرفوا أنهما مذنبان أو مخطئان لكان ذكر ذلك من غير مصلحة راجحة من باب الغيبة المذمومة؛ لكن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين أعظم حرمة وأجل قدرا وأنزه أعراضا، وقد ثبت من فضائلهم خصوصا وعموما ما لم يثبت لغيرهم، فلهذا كان الكلام الذي فيه ذمهم على ما شجر بينهم أعظم إثما من الكلام في غيرهم..اهـ
وما هذا إلا غيض من فيض، فكلام الأئمة في الأمر بالإمساك عما شجر بينهم وعدم التطلع إلى بحثه وإثارته كثير جدا. والمنهج السوي للمسلم إن أراد ذكرهم فليقل: رَبَّنا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ.
والله أعلم.