الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فقبل كل شيء ندعوك -أيتها الأخت الكريمة- إلى أن تهوني على نفسك، فالدنيا بحذافيرها لا تساوي هذا الذي ذكرته من الانهيار والحزن، واعلمي أن حق الوالدين هو أعظم الحقوق وآكدها بعد حق الله تعالى، فهما اللذان ربيا المرء صغيراً وعطفا عليه ضعيفاً في وقت هو في أمس الحاجة إلى الرفق والحنان، ولذلك قرن الله تعالى حقهما بحقه في عدة آيات من كتابه العزيز، قال تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً {البقرة:83}، وقال تعالى: وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا {النساء:36}، وقال تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا* وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا {الإسراء:23-24}، وقال تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ* وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ {لقمان:14-15}.
وهذه الآية من أعظم الآيات في هذا الباب، فإن الله تعالى أمر فيها بمصاحبة الوالدين غير المسلمين الداعيين إلى تضيع حق الله تعالى والإشراك به، مصاحبة بالمعروف، فلم يسقط حقهما في حين يجاهدان لإسقاط حقه سبحانه وتعالى، ثم إن الولد يجب عليه مواساة أبيه من ماله، والقيام بالإنفاق عليه إذا احتاج لذلك، وللأب أن يأخذ من مال ابنه ما يحتاج إليه، ويتصرف فيه من غير سرف ولا إضرار بالولد، وذلك لما في المسند عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن أعرابياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبي يريد أن يجتاح مالي، فقال: أنت ومالك لوالدك، إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أموال أولادكم من كسبكم فكلوه هنيئاً.
وفي سنن ابن ماجه عن جابر رضي الله تعالى عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله إن لي مالاً وولداً، وإن أبي يريد أن يجتاح مالي، فقال: أنت ومالك لأبيك.
واعلمي أن على الأبناء أن يزوجوا أباهم إذا أراد ذلك، قال الدردير: (و) يجب على الولد الموسر (إعفافه) أي الأب (بزوجة واحدة) لا أكثر إن أعفته الواحدة. وقال الدسوقي معلقاً: (قوله: إن أعفته) فإن لم تعفه الواحدة زيد عليها من يحصل به العفاف.
مع العلم أن الوالد إذا كان سينفق ما يأخذه من الابن في السرف، أو كان ما يأخذه يلحق الضرر بالابن، فإنه ليس للابن تمكين الأب من الأخذ من ماله لئلا يعينه على باطل، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: لا ضرر ولا ضرار. أخرجه الإمام مالك وغيره.
فحاولي أيتها الأخت الكريمة أن تعملي على إرضاء والدك، فإن في رضاه في المعروف رضى الله سبحانه وتعالى، ففي الترمذي من حديث عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: رضا الرب في رضى الوالد وسخط الرب في سخط الوالد. وفي الترمذي أيضاً من حديث أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الوالد أوسط أبواب الجنة، فإن شئت فأضع ذلك الباب أو احفظه.
والله أعلم.