الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإن وجه الشبه بين آدم وعيسى هو أن الله خلق كلا منهما بقدرته كما يشاء على غير الطريقة التي عهدها الناس، فكما خلق آدم من غير أب ولا أم، وخلق حواء من أب فقط، فقد خلق كذلك عيسى من غير أب فاكتملت القسمة، فآدم خلق من غير أب ولا أم، وحواء خلقت من ذكر دون أم، وعيسى خلق من أنثى دون أب، فالله خلق عيسى بقوله: كن، ونفخ فيه من روحه، قال الله تعالى: قَالَ كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ {آل عمران:47}.
ولله الحكمة البالغة فيما يقضيه من الأمور، وليس العبد مكلفاً بمعرفة اختيار عيسى من بين الأنبياء الآخرين عليهم جميعاً الصلاة والسلام حتى يُخلق من غير أب ويرفعه إلى السماء ويؤخر موته إلى آخر الزمان، وليس استنتاج العقول في هذا العصر كافياً في أن الحكمة كونه سيكون معصوماً من الخطأ، ثم اعلم أن آدم قد تاب إلى الله تعالى، وقد أخبر الله أنه غفر له ذنبه، كما قال تعالى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ {البقرة:37}، وقال تعالى: ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى {طه:122}.
وأما الحديث الذي ذكرت فلا يدل على أن الله خلق عيسى من غير أب لأنه سيكون معصوماً من الشيطان، فإن أمه مريم تشاركه في هذه الفضيلة، ومن المعلوم أنها خلقت من أبوين مثل أغلب البشر، وإنما سبب سلامتهما من نخس الشيطان -كما هو منصوص في الحديث- استجابة دعوة تلك المرأة الصالحة أم مريم التي دعت بقولها: وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ {آل عمران:36}، كما قال ابن حجر في الفتح والعيني في عمدة القارئ.
هذا، وننبهك إلى أنه لم يثبت أن جميع الأنبياء أخطأوا، فما دليلك على خطأ نوح وشعيب ولوط عليهم الصلاة والسلام، فالواجب احترام الأنبياء، فقد نص العلماء على أن من محارم اللسان الكلام فيهم وذكر ما لقوا من الأذى، وأما موت الأنبياء فقد وقع فعلاً ولكن أجسادهم لا تأكلها الأرض، لما في الحديث: إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء. رواه النسائي وأبو داود وأحمد وصححه الألباني.
وأما قول الحق المذكور في سورة مريم فقول أضيف إلى القائل وهو الله، وهو الذي قال كن فكان عيسى عليه الصلاة والسلام، وبهذا تتفق كلمة قول الحق مع قوله بكلمة منه، وقد أطال شيخ الإسلام في كتابه الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح في تفنيد أخطاء النصارى في هذه المسألة وفساد مقولتهم في التثليث، فبين أن المسيح ليس صفة لله تعالى.
فعليك أن تطالع كلامه في هذا الكتاب وتتأمل فيه، وعليك أن تراجع كلام القرطبي مرة أخرى، وانظر في قراءة نصب قولَ الحق إن كان عندك معرفة بلغة العرب، وراجع المفسرين.
وأما قضية إلقاء الشيطان على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم ما ليس من الوحي فهي قصة موضوعة كما حققه المحدثون المحققون في الأسانيد، كما سبق بيانه في الفتوى رقم: 28282.
وراجع لبيان بطلان عقيدة التثليث وللمزيد فيما ذكرنا للفائدة الفتاوى ذات الأرقام التالية: 30506، 70498، 53029، 49232، 1894.
والله أعلم.