الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإن السائل لم يذكر لنا المناسبة التي ذكر بها هذا الكلام.
ولكننا ننبه على بعض الأمور من أهمها أن الاشاعرة أخطؤوا في موضوع تأويل الصفات، وخالفوا منهج السلف الذي رجع إليه الإمام أبوالحسن الأشعري في آخر حياته، وكتب فيه كتابه الإبانة عن أصول الديانة، ومقالات الإسلاميين، ورسالة أهل الثغر، فلا يسوغ تقليدهم فيما أخطؤوا فيه، ولا يقلد من وافقهم في بعض أخطائهم.
وقد تكلمنا عليهم في عدة فتاوى فراجع منها الفتاوى التالية أرقامها:10400، 15695، 4118، 5719، 38987.
ثم إنه يتعين أن يعلم أن تقليد هؤلاء العلماء والأمراء لبعض من تقدمهم من أهل التأويل لا يجعلنا ننتقص أو نحط من قدرهم أو نترك الاستفادة من كتبهم، بل نترحم عليهم، ونستغفر لهم، وندعو لهم، ونستفيد من كتبهم، ونترك اتباع أخطائهم مع البعد عن تقليدهم والتعصب لهم.
فالمسلم يقر لذي الفضل بفضله، ويحرص هو نفسه على الالتزام بالسنة وحمل نفسه على الاستقامة، ويسأل الله دائما الهدى للحق فيما اختلف فيه، ويكثر من الدعاء الذي كان يدعو به النبي صلى الله عليه وسلم في استفتاح قيام الليل كما رواه مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها وهو: اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة انت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
ومع ذلك يكثر البحث وعرض ما تعلمه على النصوص الشرعية مع الاستعانة بمن هو أعلم منه ليفيده في تحقيق المسائل. وأما إهمال كتاب ما أو مؤلف ما لمجرد وجود أخطاء فإنه لا ينبغي.
فقد أبى الله العصمة إلا لكتابه كما قال الإمام الشافعي رحمه الله، فلو تركت كتب أهل العلم لخطأ فيها لما بقي كتاب من كتبهم يؤخذ منه العلم، فيحرم الناس بذلك من الخير الكثير.
فلنعذر بعض من اعتقد العقيدة الأشعرية، وكان مقلداً لمن علمه وأدبه، أو قصَّر في الاجتهاد، أو كان أسيراً للثقافة المنتشرة في عصره أو بلدته فكل هؤلاء بشر يصيب ويخطئ، والعبرة في وزن الرجال بالغالب لا بالزلات والهفوات المحدودة المحصورة، وإذا انتهجنا التفتيش عن زلات العلماء وأخطائهم فلن يسلم لنا أحد، فما من عالم إلا وله زلات، ولو أخذنا بكل جرح يقال في الأعلام لضاع منا خير كثير.
فالخطأ في بعض الجزئيات الذي لا يسلم منه غير المعصوم لا يسوغ لنا أن تترك الاستفادة منه بسببه، وإنما نترك تقليده فيما خالف فيه الصواب، إذ لو ترك الناس الاستفادة من كل من أخطأ في منهجه لضاع كثير من العلم، فلا بد من العدل في الحكم على الناس والاعتراف لذي الفضل بفضله.
فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط. رواه أبو داود والبخاري في الأدب المفرد وحسنه الألباني. وقال: ليس منا من لم يجل كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقه. رواه أحمد وحسنه الألباني.
وقد ذكر الذهبي في الميزان عند كلامه على المبتدعة: أن التشيع بلا غلو ولا تحرق كان كثيرا في التابعين وأتباعهم، قال: فلو رد حديث هؤلاء لذهب جملة من الآثار النبوية وهذه مفسدة بينة.
وقد دأب العلماء قديما عند الكلام في الجرح والتعديل على المقارنة بين الحسنات والسيئات، والحكم بالعدل، وقد سمى بعضهم كتبه بالجرح والتعديل كما عمل ابن أبي حاتم، و سمى بعضهم كتبه بالميزان كما عمل الذهبي فقد سمى كتابه الميزان، وسمى ابن حجر كتابه لسان الميزان .
وعندما يتم تطبيق هذه الموازنة على هؤلاء العلماء، و يتم جمع الحسنات والأعمال الخيرة لهم وحشدها إلى جانب خطئهم فإنه ستنغمر أخطاؤهم في بحار حسناتهم، وهذا هو الذي سلكه الرسول -صلى الله عليه وسلم- مع حاطب -رضي الله عنه-، حيث قال -صلى الله عليه وسلم- لعمر عندما استأذن في قتل حاطب: أليس من أهل بدر ؟ فقال: لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة-أو: غفرت لكم -
قال ابن القيم في مفتاح دار السعادة: من قواعد الشرع والحكمة أيضا أن من كثرت حسناته وعظمت وكان له في الإسلام تأثير ظاهر فإنه يحتمل له مالا يحتمل لغيره ويعفي عنه مالا يعفي عن غيره فإن المعصية خبث والماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث بخلاف الماء القليل فإنه لا يحمل أدنى خبث ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم وهذا هو المانع له صلى الله عليه وسلم من قتل من حس عليه وعلى المسلمين وارتكب مثل ذلك الذنب العظيم فأخبر صلى الله عليه وسلم انه شهد بدرا فدل على أن مقتضى عقوبته قائم لكن منع من ترتب أثره عليه ماله من المشهد العظيم فوقعت تلك السقطة العظيمة مغتفرة في جنب ماله من الحسنات ولما حض النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة فأخرج عثمان رضي الله عنه تلك الصدقة العظيمة قال ما ضر عثمان ما عمل بعدها وقال لطلحة لما تطاطأ للنبي صلى الله عليه وسلم حتى صعد على ظهره إلى الصخرة أوجب طلحة وهذا موسى كليم الرحمن عز وجل ألقى الألواح التي فيها كلام الله الذي كتبه له ألقاها على الأرض حتى تكسرت ولطم عين ملك الموت ففقأها وعاتب ربه ليلة الإسراء في النبي صلى الله عليه وسلم وقال شاب بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي وأخذ بلحية هارون وجره إليه وهو نبي الله وكل هذا لم ينقص من قدره شيئا عند ربه وربه تعالى يكرمه ويحبه فإن الأمر الذي قام به موسى والعدو الذي برز له والصبر الذي صبره والأذى الذي أوذيه في الله أمر لا تؤثر فيه أمثال هذه الأمور ولا تغير في وجهه ولا تخفض منزلته وهذا أمر معلوم عند الناس مستقر في فطرهم أن من له ألوف من الحسنات فإنه يسامح بالسيئة والسيئتين ونحوها حتى إنه ليختلج داعي عقوبته على إساءته وداعي شكره على إحسانه فيغلب داعي الشكر لداعي العقوبة كما قيل:
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد... جاءت محاسنه بألف شفيع
وقال آخر:
فإن يكن الفعل الذي ساء واحدا... فأفعاله اللاتي سررن كثير.... اهـ
وقال الذهبي في السير: ولو أن كل من أخطأ في اجتهاده مع صحة إيمانه وتوخيه لاتباع الحق أهدرناه وبدعناه لقل من يسلم من الأئمة معنا رحم الله الجميع بمنه وكرمه.
وقال أيضا في ترجمة الحافظ شيخ الإسلام أبي القاسم إسماعيل بن محمد بن الفضل الأصبهاني مصنف كتاب الترغيب والترهيب نقلا عن تلميذه ابي موسى المديني أنه قال: أخطأ ابن خزيمة في حديث الصورة ولا يطعن عليه بذلك؛ بل لا يؤخذ عنه هذا فحسب.
قال أبو موسى: أشار بهذا إلى أنه قل إمام إلا وله زلة، فإذا ترك لأجل زلته ترك كثير من الأئمة، وهذا لا ينبغي أن يفعل
والله أعلم.