الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإن النهي قد يأتي بلفظ الخبر كالنهي بلفظ الطلب إذا جاء لتقرير الحكم أو جاء بذمه أو ذم فاعله أو البغض والكراهية أو عدم الحب وهو أبلغ في الخطاب من النهي، كما قال الزركشي والزيلعي، لأن النهي يتضمن أن الحكم قد كان قاراً قبل وروده، ومن هذا قوله تعالى: لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ {الواقعة:79}، وقوله: وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً {النساء:141}، وقوله تعالى: فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ {البقرة:197}، وقوله تعالى: إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ {الأنعام:141}، وقوله تعالى: وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ {الزمر:7}، وحديث مسلم: لا يخطب الرجل على خطبة أخيه، ولا يسوم على سوم أخيه، ولا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها، ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكتفئ صحفتها ولتنكح، فإنما لها ما كتب الله لها. وكقوله: لا ضرر ولا ضرار. رواه مالك وابن ماجه.
قال الزركشي في البحر المحيط: يقع الخبر الموجب به موقع الأمر وبالعكس فمن الأول قوله تعالى:وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ. أي ليرضعن، ولا يصح أن يكون خبراً، لأن الرضاع في الواقع قد يكون أقل أو أكثر منه، ومنه قوله: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ. ثم قال: يغفر لكم. والمعنى: آمنوا بالله ورسوله يغفر لكم، هكذا جعل النحاة يغفر جوابا ل (تؤمنون)، لوقوعه موقع آمنوا، ولا يصح أن يكون جوابا لـ (هل أدلكم) على حد قوله: هل تأتيني أكرمك، لأن المغفرة لا تجب بالدلالة، وإنما تجب بالإيمان، وقوله: لا يمسه إلا المطهرون. وقيل: إنه نهي مجزوم، ولكن ضمت السين إتباعا للضمير...
الثاني قوله تعالى: فليمدد له الرحمن مدا. المعنى: مد. وقولهم في التعجب: أحسن بزيد، كقوله: أسمع بهم وأبصر. أي ما أسمعهم وأبصرهم، وقوله: لا يمسه إلا المطهرون. قيل: إنه خبر منفي واقع موقع النهي، هذا هو المشهور. ومنع القاضي أبو بكر والسهيلي ورود الخبر مراداً به الأمر، وقال: هو باق على خبريته، ولا يلزم الخلف بالنسبة إلى العصاة، فإنه خبر عن حكم الشرع أي أن حكمهن أن يجب أو يشرع رضاعهن أو عليهن الرضاعة والمشهور الأول، بل قيل: إنه أبلغ من الأمر المحض.. انتهى.
وقال الزركشي أيضاً في موضع آخر من البحر: ترد صيغة الخبر للأمر نحو (والوالدات يرضعن) وهو مجاز، والعلاقة فيه ما يشترك كل واحد منها في تحقيق ماتعلق به، وكذا الخبر بمعنى النهي نحو: لا تنكح المرأة المرأة. نعم ها هنا بحث دقيق أشار إليه ابن دقيق العيد في شرح العنوان: وهو أنه إذا ورد الخبر بمعنى الأمر، فهل يترتب عليه ما يترتب على الأمر من الوجوب إذا قلنا: الأمر للوجوب، أو يكون ذلك مخصوصاً بالصيغة المعنية وهي صيغة (افعل)؟ ولم يرجح شيئاً. وهذا البحث قد دار بين الشيخين ابن تيمية وابن الزملكاني في مسألة الزيارة، فادعى ابن تيمية أنه لا فرق وجعل قوله صلى الله عليه وسلم: لا تشد الرحال إلا إلى ثلاث. في معنى النهي، والنهي للتحريم، كما أن الأمر للوجوب، ونازعه ابن الزملكاني وقال: هذا محمول على الأمر بصيغة (افعل) وعلى النهي بصيغة (لا تفعل)، إذ هو الذي يصح دعوى الحقيقة فيه، وأما ما كان موضوعاً حقيقة لغير الأمر والنهي، ويفيد معنى أحدهما كالخبر، بمعنى الأمر، والنفي بمعنى النهي فلا يدعى فيه أنه حقيقة في وجوب، ولا تحريم، لأنه يستعمل في غير موضعه إذا أريد به الأمر أو النهي، فدعوى كونه حقيقة في إيجاب أو تحريم، وهو موضوع لغيرهما مكابرة، قال: وهذا موضع يغلط كثير من الفقهاء ويغترون بإطلاق الأصوليين ويدخلون فيه كل ما أفاد نهياً أو أمراً، والمحقق الفاهم يعرف المراد ويضع كل شيء في موضعه. قلت: صرح القفال الشاشي في كتابه بهذه المسألة وألحقه بالأمر ذي الصيغة. قال: ومن الدليل على أن معناه الأمر والنهي دخول النسخ فيه، والأخبار المحضة لا يلحقها النسخ، ولأنه لو كان خبراً لم يوجد خلافه، قال: ومن هذا الباب عند أصحابنا قوله تعالى: لا يمسه إلا المطهرون. وقال بعضهم: لا إذا كانت نافية أبلغ في الخطاب من النهي، لأن النهي يتضمن أن الحكم قد كان قارا قبل وروده، والنفي يتضمن الإخبار عن حالته، وأنها كانت منفيه، فلم تكن ثابتة قبل ذلك، وها هنا فوائد إحداها: في العدول عن صيغة الطلب إلى صيغة الخبر فوائد: منها: أن الحكم المخبر به يؤذن باستقرار الأمر وثبوته على حدوثه وتجدده، فإن الأمر لا يتناول إلا فعلا حادثاً فإذا أمر بالشيء بلفظ الخبر آذن ذلك بأن هذا المطلوب في وجوب فعله ولزومه بمنزلة ما قد حصل وتحقق، فيكون ذلك أدعى إلى الامتثال، ومنها: أن صيغة الأمر وإن دلت على الإيجاب فقد يحتمل الاستحباب. فإذا جيء بصيغة الخبر علم أنه أمر ثابت مستقر وانتفى احتمال الاستحباب.. انتهى.
وقال الشاطبي في الموافقات: وأما الأوامر والنواهي غير الصريحة فضروب. أحدها ما جاء مجيء الأخبار عن تقرير الحكم كقوله تعالى: كتب عليكم الصيام، والوالدات يرضعن أولادهن، ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا.. فكفارته إطعام عشرة مساكين، وأشباه ذلك مما فيه معنى الأمر فهذا ظاهر الحكم وهو جار مجرى الصريح من الأمر والنهي.
والثاني ما جاء مجيء مدحه أو مدح فاعله في الأوامر أو ذمه أو ذم فاعله في النواهي وترتيب الثواب على الفعل في الأوامر وترتيب العقاب في النواهي أو الإخبار بمحبة الله في الأوامر والبغض والكراهية أو عدم الحب في النواهي وأمثلة هذا الضرب ظاهرة كقوله: والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون. وقوله: بل أنتم قوم مسرفون. وقوله: ومن يطع الله ورسوله ندخله جنات. ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده ندخله ناراً. وقوله: والله يحب المحسنين. وقوله: إنه لا يحب المسرفين. ولا يرضى لعباده الكفر. وإن تشكروا يرضه لكم، وما أشبه ذلك فإن هذه الأشياء دالة على طلب الفعل في المحمود وطلب الترك في المذموم من غير إشكال. انتهى.
والله أعلم.