الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإن الورع من مراتب الدين التي ندب إليها الشرع، وحقيقة الورع ترك ما لا بأس به حذرا مما به بأس، وأصل الورع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه. رواه البخاري ومسلم.
إذا تقرر ذلك فهل من الورع الخروج من خلاف العلماء، فإذا اختلفوا مثلا في فعل هل هو مباح أو حرام، فالورع الترك أم أن ذلك لا يعد ورعا، فالجواب أن من أهل العلم من ذهب إلى أن ذلك من الورع، ومنهم من ذهب إلى أنه ليس من الورع. جاء في كتاب أنوار البروق ما يلي: المسألة الأولى: اختلف الأصل (القرافي) وابن الشاط في أن الخروج من خلاف العلماء بحسب الإمكان هل يعد من الورع أو لا يعد منه؟ فذهب الأصل إلى أنه يعد منه، وقال: فإن اختلف العلماء في فعل هل هو مباح أو حرام؟ فالورع الترك، أو هو مباح أو واجب فالورع الفعل مع اعتقاد الوجوب حتى يجزئ عن الواجب على المذهب، وإن اختلفوا فيه هل هو مندوب أو حرام؟ فالورع الترك، أو مكروه أو واجب فالورع الفعل حذرا من العقاب في ترك الواجب، وفعل المكروه لا يضره، وإن اختلفوا هل هو مشروع أم لا؟ فالورع الفعل، لأن القائل بالمشروعية مثبت لأمر لم يطلع عليه النافي، والمثبت مقدم على النافي كتعارض البينات... اهـ
وذهب الإمام ابن الشاط إلى أن الخروج من خلاف العلماء بحسب الإمكان لا يعد من الورع. وقال: لا يصح ما قاله الشهاب لوجوه: الوجه الأول: أنه مبني على أن الورع في ذلك توقع العقاب وأي عقاب يتوقع في ذلك، أما على القول بتصويب أحد القولين أو الأقوال دون غيره فالإجماع منعقد على عدم تأثيم المخطئ وعدم تعيينه فلا يصح دخول الورع في خلاف العلماء على هذا الوجه. الوجه الثاني: أنه لا دليل على دخول الورع في ذلك غير ما يتوهم من توقع الإثم والعقاب، وذلك منتف بالدليل الإجماعي القطعي... الوجه الرابع: أنه لم يحفظ التنبيه في ذلك عن واحد من أصحابه يعني الصحابة رضي الله عنهم، ولا غيرهم من السلف المتقدم. اهـ
وعلى كل فإن الخروج من اختلاف العلماء إذا قلنا به مندوب ليس بواجب قطعا، والمندوب يقابل المكروه، والكراهة تزول بأدنى حاجة.
وفي المسألة المعروضة يذكر الأخ السائل حاجته إلى التورق، فلا معنى إذاً للورع في هذه الصورة مع وجود الحاجة، لأن غاية أمره ما لو أخذ برأي المجيز بترك المعاملة المختلف في جوازها أنه أتى مكروها، وقد تقدم أن الكراهة تزول بأدنى حاجة.
والله أعلم.