الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فكان على المسلمين في بلاد المهجر أن لا يكونوا في مثل هذا الجو الذي ذكرت عنه ما ذكرت من الصراع والنزاع، وإنما الواجب أن يقدموا المصالح العليا وخدمة الدين على طاعة الشيطان فيما يريده لهم من التفرقة والفشل، ثم إنه من الخطأ الكبير أن يرفع المسلمون قضية كهذه أمام محكمة تعمل بالقوانين الوضعية، ويدفعوا في الخصام عليها ما ذكرته من المال، فهذه -في الحقيقة- أخطاء كبيرة يجب على كلا الطرفين أن يتوبوا إلى الله منها، وأن يعودوا إلى تحكيم شرع الله فيما شجر بينهم.
وفيما يتعلق بموضوع السؤال فالذي عليه جمهور أهل العلم -في الجملة- هو أن الوقف يجب أن يظل باقياً على الكيفية التي أوقف بها، فلا يباع ولا يتصرف فيه بما يخرجه عن الوجه الذي أوقف عليه، لقوله صلى الله عليه وسلم المتفق عليه لما استأمره عمر رضي الله عنه في شأن أرض له بخيبر: إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها، فتصدق بها عمر، أنها لا يباع أصلها ولا يورث ولا يوهب. متفق عليه.
وقد ذهب جمهور أهل العلم إلى عدم جواز استبدال الوقف بغيره إذا كان عقاراً، ولو لم يعد منتفعاً به، أخذاً بعموم هذا الحديث، وإن كانت لبعضهم بعض الاستثئاءات في حالات نادرة، جاء في الموسوعة الفقهية: معنى اندراس الوقف أنه أصبح بحالة لا ينتفع به بالكلية، بأن لا يحصل منه شيء أصلاً أو لا يفي بمئونته، كأوقاف المسجد إذا تعطلت وتعذر استغلالها، ففي هذه الصورة جوز جمهور الحنفية الاستبدال على الأصح عندهم إذا كان بإذن القاضي ورأيه لمصلحة فيه. وأما المالكية فقد أجاز جمهورهم استبدال الوقف المنقول فقط إذا دعت إلى ذلك مصلحة، وهي الرواية المشهورة عن مالك... وأما العقار فقد منع المالكية استبداله مع شيء من التفصيل... وأما الشافعية فقد شددوا كثيراً على استبدال العين الموقوفة حتى أوشكوا أن يمنعوه مطلقاً خشية ضياع الوقف أو التفريط فيه.. انتهى.
وللإمام أحمد رواية أخرى وهو أنه لا يجوز بيعه ولا استبداله بغيره إلا أن تتعطل منافعه بالكلية، ولا يمكن الانتفاع به ولا تعميره وإصلاحه، أو دعت المصلحة إلى ذلك. والدليل على ذلك ما فعله عمر رضي الله عنه حين بلغه أن بيت المال الذي بالكوفة نقب فكتب إلى سعد أن أنقل المسجد الذي بالتمارين واجعل بيت المال في قبلة المسجد. وكان هذا العمل بمشهد من الصحابة فلم ينكر، فهو كالإجماع، وقد ذهب إلى هذا القول الأخير شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، بل ذهب إلى أبعد منه حيث يقول: ومع الحاجة يجب إبدال الوقف بمثله، وبلا حاجة يجوز بخير منه لظهور المصلحة.
ولا شك أن هذا القول هو الوسط الذي يراعي المصالح، ومن هذه النصوص يتبين أن إبدال الوقف بلا حاجة أو لمصلحة غير راجحة لم يقل به أحد من أهل العلم، وعليه فتحويل المسجد المذكور إلى جمعية خيرية مع أنه هو المسجد الوحيد للمسلمين في المنطقة، لا يصح على أي من أقوال أهل العلم، وخصوصاً إذا كان تحويله سيؤدي إلى تعطيل الفرائض كما دل عليه السؤال، ثم اعلم أن الأمور الشرعية لا ينظر فيها إلى قول الأكثرية أو الأقلية، وإنما ينظر فيها إلى الحكم الشرعي، وعلى الجميع أن يرضوا به ويسلموا تسليماً، قال الله تعالى: فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا {النساء:65}، ونسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين في سائر البلاد.
والله أعلم.