الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإن الله عز وجل متصف بكل كمال ومنزه عن كل نقص، فهو المتصف أزلا وأبداً بالعلم الواسع المطلق المحيط بكل ما كان وما سيكون وما هو كائن، قطعت بذلك الأدلة العقلية، كما نطقت به وتواترت عليه الأدلة النقلية من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وما ذكره السائل هو من باب النسخ والتربية .
فالنسخ في أحكام الشريعة له حكم عظيمة ذكرها أهل العلم ومن هذه الحكم: إظهار امتثال العباد أوامر الرب جل وعلا، ومنها التخفيف على العباد وهذا الغالب -كما في هذا السؤال- ومنها كذلك التدرج في الأحكام كنسخ الأحكام التي أباحت بعض الأمور التي كان عليها المسلمون إلى الحرمة، وقد ينسخ الأثقل إلى الأخف والأخف إلى الأثقل، وينسخ المثل بمثله ثقلاً وخفه كما هو مبين في محله.
قال العلامة الزرقاني في مناهل العرفان: وأما حكمة الله في أنه نسخ بعض أحكام الإسلام ببعض فترجع إلى سياسة الأمة وتعهدها بما يرقيها ويمحصها... على مهل متألفة -أي الشريعة- لهم متلطفة في دعوتهم متدرجة بهم إلى الكمال رويداً رويداً، صاعدة بهم في مدارج الرقي شيئاً فشيئاً، منتهزة فرصة الإلف والمران والأحداث الجادة عليهم لتسير بهم من الأسهل إلى السهل، ومن السهل إلى الصعب، ومن الصعب إلى الأصعب حتى تم الأمر ونجح الإسلام نجاحاً لم يعرف مثله في سرعته وامتزاج النفوس به ونهضة البشرية بسببه.
تلك الحكمة على هذا الوجه تتجلى فيما إذا كان الحكم الناسخ أصعب من المنسوخ كموقف الإسلام في سموه ونبله من مشكلة الخمر في عرب الجاهلية بالأمس، وقد كانت مشكلة معقدة كل التعقيد يحتسونها بصورة تكاد تكون إجماعية، ويأتونها لا على أنها عادة مجردة بل على أنها أمارة القوة ومظهر الفتوة وعنوان الشهامة، فقل لي بربك هل كان معقولاً أن ينجح الإسلام في فطامهم عنها ولو لم يتألفهم ويتلطف!!.. أما الحكمة في نسخ الحكم الأصعب بما هو أسهل منه فالتخفيف على الناس ترفيها عنهم وإظهاراً لفضل الله عليهم ورحمته بهم وفي ذلك إغراء لهم على المبالغة في شكره وتمجيده وتحبيب لهم فيه وفي دينه، وأما الحكمة في نسخ الحكم بمساويه في صعوبته أو سهولته فالابتلاء والاختبار ليظهر المؤمن فيفوز والمنافق فيهلك ليميز الخبيث من الطيب.
وبذلك تعلم أن الله تعالى قد أحاط بكل شيء علماً، وأن له الحكمة البالغة في تشريعه ووضع أحكامه، وبه تتضح لك الحكمة، وتزول عنك الشبهة من نسخ الحكم المذكور، وبإمكانك أن تطلع على المزيد عن هذا الموضوع في الفتوى رقم: 46644.
وأما ما ذكرته من قول الأطباء فهو صحيح مجرب، ولكنه بالنسبة للصائم القادر المقيم (غير المسافر) مصداقاً لقول الله تعالى: وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ {البقرة:184}، ولقوله تعالى: فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ {البقرة:184}، وما تجده من إغماء يصيب بعض المسلمين بسبب الصيام فإن الله تعالى لم يكلف هذا النوع من الناس بالصيام كما رأيت في الآية السابقة الذكر.
والله أعلم.