الأمل هو حادي العمل ، ولا ينشط المرء للعمل إلا ولديه طموحات وأهداف يسعى إلى تحقيقها ، وهذا مما يميز الإنسان عن سائر الحيوان , وإذا فقد الإنسان الأمل بالكلية لم يستطع العيش , ولهذا قال الشاعر :
أعلل النفس بالآمال أرقبها ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل
ولا يتصور أبدا أن يوجد إنسان سوي يعيش في هذه الحياة بدون أمل يتطلع إليه , ويسعى لتحقيقه , إن هذا ينافي فطرة الإنسان ونفسيته , وطبيعة دوره على هذه الأرض , ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - كما في سنن أبي داود ( أصدق الأسماء حارث وهمام ) ، لأن هذا الوصف هو الموافق لطبيعة الإنسان , فكل إنسان لا يخلو من كسب وهم , وأمان وآمال , وهذه الأماني والآمال , لا تنتهي ما دام المرء على قيد الحياة , لكن إذا استرسل العبد في آماله , واستسلم لأحلامه , نسي الآخرة , وأحب البقاء والخلود في الدنيا , وكره كل ما من شأنه أن يحول بينه وبين تحقيق تلك الآمال .
ومن أجل ذلك جاءت النصوص الشرعية وكلام السلف وعلماء السلوك محذرة من طول الأمل ونسيان الأجل, والركون إلى الدنيا , قال الله عز وجل مخاطبا نبيه عليه الصلاة والسلام في شأن الكافرين : { ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون } (الحجر: 3) ، أي دعهم يشتغلوا بدنياهم , ويتوقعوا طول الأعمار , وتلهيهم الآمال والأماني عن الاستعداد للقاء الله والعمل لما بعد الموت , فسوف يعلمون سوء صنيعهم إذا باغتهم الأجل , وعاينوا الجزاء على أعمالهم , وقد ضرب نبينا صلى الله عليه وسلم الأمثال لقضية الأمل والأجل في أحاديث كثيرة , منها ما جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: خط النبي - صلى الله عليه وسلم - خطا مربعا وخط خطا في الوسط خارجا منه وخط خططا صغارا إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط وقال : (هذا الإنسان وهذا أجله محيط به أو قد أحاط به ، وهذا الذي هو خارج أمله ، وهذه الخطط الصغار الأعراض فإن أخطأه هذا نهشه هذا ، وإن أخطأه هذا نهشه هذا) رواه البخاري .
فقد أراد عليه الصلاة والسلام من خلال هذا المثل أن يبين حقيقة هامة يغفل الناس عنها , ألا وهي أن آمال الإنسان لا تنتهي ولا تقف عند حد , وأن أجله أقرب إليه من أمله , واستخدم صلى الله عليه وسلم الرسم التوضيحي لإيصال هذا المعنى , وهو من الوسائل التعليمية المهمة , ومن المسلمات لدى التربويين , أنه كلما زاد عدد الحواس التي تشترك في الموقف التعليمي، زادت فرص الإدراك والفهم، كما أن المتعلم يحتفظ بأثر التعليم فترة أطول , فرسم صلى الله عليه وسلم مربعا في الأرض ,يمثل أجل الإنسان الذي يحيط به من كل جانب , ولا يستطيع أن يخرج عنه أو يتجاوزه , أو يقدم فيه أو يؤخر , ثم رسم في وسط هذا المربع خطا طويلا قد خرج خارج المربع وابتعد عنه , وهذا الخط يمثل آمال الإنسان العريضة البعيدة , التي تُغفِل الأجل , ولا تحسب له أي حساب , فهو يؤمل ويؤمل , وأجله أقرب إليه من كل تلك الآمال كما قال الأول :
نؤمل آمالا ونرجو نتاجها وعل الردى مما نرجيه أقرب
ثم رسم خطوطا صغارا على جانبي هذا الخط الذي في وسط المربع , وهذه الخطوط تمثل الآفات والعاهات التي يتعرض لها الإنسان حال حياته ,فإن سلم من واحدة لم يسلم من الأخرى , وإن سلم من الجميع ولم تصبه آفة , باغته الأجل فجأة , وعبّر صلى الله عليه وسلم عن طروء هذه الآفات بالنهش , وهو لدغ ذ وات السم , للمبالغة في الإصابة بهذه الآفات , وتألم الإنسان بها , وهكذا الأعراض في الدنيا , إن تجاوز هذا العرَض , لدغه العرَض الآخر , والمقصود من الحديث : التعجب من حال الإنسان , وكيف أن الأجل لا يفوته ,بل هو محيط به من جميع جوانبه , وهو معرض قبل ذلك للآفات والأخطار التي تهدد حياته , وتكدر عيشه , ومع ذلك يؤمل أملا قد جاوز أجله .
ومن خلال هذا التمثيل في الحديث يتضح لنا أنه ينبغي على المسلم أن يكون قصير الأمل مستعدا لحلول الأجل , وأن يكثر من ذكر الموت على الدوام , فإن ذلك هو الذي يدفع الإنسان إلى الاجتهاد في العمل الصالح , وانتهاز فرصة الحياة , قبل أن تطوى صحائف الأعمال ، وإذا علم ذلك دفعه إلى الاجتهاد في العمل وانتهاز الفرص قبل أن تطوى صحائف الأعمال .