عندما يكون الظلم هو القاعدة القانونية المسيطرة - وليس الشذوذ - يكون هذا إيذانًا بخراب العالم وقيام القيامة، عندما يتحول المظلوم إلى ظالم والمجرم إلى قاضي - يقف العالم أمام منزلق خطير، فإما أن يناضل ضد قوى الظلم وإما أن يندثر وينتحر جماعيًا.
ومن الغريب أن اليهودية العالمية وقوى الحضارة الأوروبية لم تحاول التعرف على الحق والعدل أبدًا، فلمدة (خمسة قرون والغزو مستمر..) هكذا يطلق هذا الشعار (نعوم تشومسكي) عنوانًا لكتابه .. وهو عنوان واضح الدلالة على أننا نواجه بأساليب مختلفة - سرية وعلنية - حربًا صليبية منذ عدة قرون .. فلم تضع الحرب الصليبية الواضحة أوزارها حتى هرع الأوربيون - من خلال كتابات المستشرقين وطلائع الاستعمار الحديث - إلى تغيير خططهم والبدء بحرب أخرى ذات طبيعة خاصة (!!)..
إنه الصراع الدائم بأساليب مختلفة .. الإبادة للآخرين ولا شيء غير هذا ..!!
· وقد حصلت بريطانيا على شرف تدمير ملايين المسلمين وإبادتهم في شبه القارة الهندية وإفريقيا.. أما فرنسا فقد كان لها في الجزائر وحدها شرف إبادة ثمانية ملايين مسلم خلال مائة وثلاثين سنة.
· وهكذا نجد أن التوجه الصراعي خط مستمر شبه ثابت في موقف الحضارة الأوروأمريكية من الآخر المسلم..
وانطلاقًا من الفكر الديني الوثني القديم القائم على (صراع الآلهة) في اليونان، والفكر الفلسفي القائم على مقولات (نيتشه وهيجل) والفكر الاقتصادي القائم على (صراع الطبقات)، و(وحشية الرأسمالية) لصالح الأغنياء تحقيقًا لقاعدة عولمة الفقر لإبادة أربعة أخماس البشرية .. ومرورًا (بنهاية التاريخ) لصالح الرأسمالية عند فوكاياما، و(صدام الحضارات) عند (هنتنجتون) وأستاذه (برنارد لويس) المنظّر (اليهودي البريطاني الأمريكي) الدائم لوجوب إبادة المسلمين بكل الطرق.
وانطلاقًا من هذه الرؤية العنصرية العنيفة ضد المسلمين يتعامل الغرب بمعايير مزدوجة لصالح اليهود دائمًا، ويعطل فعالية الأمم المتحدة ومجلس الأمن دائمًا، ويفتعل صورًا من الإرهاب عن طريق أفراد مستأجرين أو ممسوخي العقل، أو جهلاء لا يُؤبه بهم من أجل تبرير إبادته الجماعية لشعوب إسلامية في مقابل أخطاء فردية .. والعجيب أنه يدين دون محاكمة أو إجراءات قانونية .. وحتى اليوم مازالت حوادث 11 سبتمبر بعيدة عن أن تخضع لمحكمة دولية عادلة .. تعرف فيها الحقائق كما هي لا كما صورها طرف من الأطراف.
أرخص دماء:
إن الشعوب الإسلامية تواجه مشكلة مأساوية غريبة تدفع بعض أبنائها عن حدود الوسطية والاعتدال، فالمجرم الصليبي والصهيوني هو القاضي، وعلاقته ببعض الحكام العرب علاقة غير معروفة المعالم، لدرجة تحار فيها بعض العقول فتتساءل: أحكامنا لنا ومعنا، أم معهم ولهم؟ وتمشي الشعوب بلا حارس يحميها ويقودها .. وكل ذلك يمضي والشعوب المسلمة تعاني من إذلال الدول الكبرى والصهيونية وقهرها وإبادتها للمسلمين أصحاب أرخص الدماء في الأرض .. سواء في فلسطين أم العراق أم أفغانستان أم غيرها .. وكما يقول رجاء جارودي: فإن الغرب سلب ونهب وقتل الآخرين طوال خمسة قرون بمنهجية مؤسسة تارة على أصولية دينية طبقًا لأخطر أساطير التاريخ الإنساني: الشعب المختار، وأرض الميعاد، ومملكة المسيح على الأرض التي تشيّد على دماء عشرات الملايين من القتلى .. وتارة على علمانية ليبرالية طبقًا للدارونية الشاملة ذات البقاء للأقوى، وأن للأعراق الأعلى حقوقًا على الأعراق الأدنى، ومع ذلك كله، أي مع غزو الغرب للشرق لمدة خمسة قرون، ومع أن الغرب هو الذي أطلق حلقة العنف الشرير الأولى، فإنه إذا هبت شعوب الشرق والإسلام تدافع عن نفسها أصبحت إرهابية جديرة بسحقها، كما ذكر روجيه جارودي.
ويرى مكولي c.Mcauley في دراسته عن سيكولوجية الإرهاب أن ردّ الفعل المتحيز ضد العرب والمسلمين يجعلهم يتجهون من مؤيدين ومساندين للجهود المبذولة لمكافحة "الإرهاب" إلى مساندين "للإرهاب"، كما يؤدي أيضًا رد الفعل المتحيز إلى الشك بقوة، والكره الموجّه نحو العرب والمسلمين في الولايات المتحدة الأمريكية .. أي تبادل الكراهية المستمر.
ويرى مكولي - أيضًا - أن العنف الذي تمارسه بعض المؤسسات الإسلامية ناتج أساسًا عن السياسية الأمريكية التي تكيل بمكيالين بانحيازها الشديد لإسرائيل، واستناد هذه السياسة على الهيمنة والسيطرة والابتزاز والاستغلال لموارد الدول الأخرى فيما يخدم المصالح الأمريكية بالدرجة الأولى، فهؤلاء الذين يمارسون العنف من المسلمين يدركون أن الولايات المتحدة كانت ومازالت تؤذي المسلمين وتذلهم منذ خمسين عامًا.
السيطرة الاستعمارية:
لقد أشارت دراسة أعدتها سكرتارية الأمم المتحدة عن الإرهاب عام (1979م) إلى أن أهم الدوافع وراء ممارسة الأنشطة الإرهابية هي السيطرة الاستعمارية والعدوانية على بعض الدول وممارسة التمييز العنصري، واستخدام القوة من جانب بعض الدول، والتدخل في الشئون الداخلية، والاحتلال الأجنبي للشعوب، وممارسة العنف والقمع بهدف السيطرة على بعض الشعوب، أو إجبار السكان على التخلي عن أراضيهم.
كذلك أشارت الدراسة إلى أن أهم الأسباب استمرار النظام الاقتصادي الدولي غير العادل، وغير المتوازن.
· الاستغلال الأجنبي للموارد الطبيعية للدول بالقوة.
· التدمير المستمر أو المنظم من قوى أجنبية لدولة أو سكانها، أو للبيئة الطبيعية.
· الانتهاك الصارخ لحقوق الإنسان سواء من خلال السجن والتعذيب، أو الأعمال الانتقامية، والشعور بالجوع والحرمان والبؤس.
لقد أصبحت الولايات المتحدة القوة الوحيدة في العالم، وأصبحت الرمز الفعلي للجيش العلماني والغربي، والقوة الاقتصادية الكبرى، ورمز الهيمنة والسيادة على بقية دول العالم "شرطي العالم".
ولقد أصبح ينظر إلى الولايات المتحدة الأمريكية لدى الدول بأنها تجسيد للاستعمار الجديد، ورمز للقوى العلمانية والاقتصادية التي تفرض التغير الخارجي على كثير من دول العالم المستقرة في الماضي بالترهيب والتهديد.
وبالنسبة للجانب الاقتصادي تدل إحصاءات البنك الدولي على أن ثلث أقطار العالم يعيش ما بين (30 - 40%) من سكانها تحت خطر الفقر، ويعيش (40%) من سكان العالم في اقتصاديات يقل فيها معدل الدخل السنوي لكل فرد عن (800 دولار)، وهناك (2.8) مليار نسمة في العالم يقل دخل كل فرد منهم عن دولار في اليوم، و(1.3) مليار نسمة يقل دخل كل فرد منهم عن دولار واحد في اليوم. وكل ذلك نتيجة جشع أمريكا، وأوروبا، والصهيونية، وتعمدهم السيطرة على مصادر الثروة وفرض الفقر باسم العولمة على أربعة أخماس البشرية، كما أثبت العالمان الألمانيان مارتن وشومان في كتابهما الرائع عن (فخ العولمة).
وتدل الاتجاهات العالمية على أن (20%) من سكان العالم الأكثر فقرًا لديهم (1.2%) من دخل العالم عام 1997م. ويقدر البنك الدولي أن ما بين (600) مليون إلى مليار سيولدون في فقر مدقع ما بين عامي (2000 – 2015م) وأن ثلاثة مليارات من الناس سيكونون فقراء في هذا الوقت.
وهكذا فإن الموقف الظالم للدول الكبرى والصهيونية – مع سلبية كثير من مسئولي العالم العربي، ومنعهم شعوبهم – من الوقوف مع إخوانهم المسلمين الذين يتعرضون للقتل اليومي والتعذيب الوحشي من جانب الديمقراطية الأمريكية والصهيونية.
هذا الواقع يلقي ظلاله النفسية والوجدانية على الإنسان المسلم فيندفع – لاسيما في مرحلة الشباب التي يصعب معها الصبر والنظر في عواقب الأمور – إلى الخروج عن الوسطية والاعتدال، فيميل إما إلى التفريط السلبي الذي يجعله ينحدر إلى السلوكيات المبددة لطاقته وعقله فيهمل كل شيء، وقد ينحدر إلى المخدرات والانحرافات القاتلة – أو يميل إلى الإفراط فينخرط في سلك جماعة من تلك التي تجنح إلى التكفير والإرهاب.
ــــــــــــــــ
الأزهر6/79 ( د.عبد الحليم عويس)