يقصد بتوحيد الربوبية إفراد الله عز وجل بأفعاله ، وبعبارة أخرى أن يعتقد المسلم تفرد الله عز وجل بالخلق ، والرزق ، والإحياء ، والإماتة ، والملك ، والتدبير ، وسائر ما يختص به من أفعال ، وقد كان هذا النوع من التوحيد واضحا بيِّنا حتى لدى المشركين والكفار ، لوضوح دلائله ، وجلاء آياته .
وقد قص الله عز وجل علينا في كتابه الكريم قصة طاغيين ادعيا بعض خصائص الربوبية ، فعاقبهما الله عز وجل ، بجنس ما ادعياه .
فهذا طاغية يسمى النمرود بن كنعان ادعى أنه قادر على إحياء الموتى مضاهيا بذلك رب العزة والجلال ، فما كان من إبراهيم عليه السلام إلا أن طلب منه فعلا آخر من أفعال الرب - جل جلاله - وهو تسيير الشمس من المشرق إلى المغرب ، فعجز ، وبهت ، ولم يستطع إلى ذلك سبيلا ، قال تعالى : { ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين } (البقرة:258)، وقد ذكر أهل التفسير : أن الله عز وجل ابتلى النمرود بذبابة دخلت رأسه وجعلت تطن ، وهو يحاول إخراجها ، لكن دون جدوى ، فما كان منه إلا أن أمر عبيده أن يضربوا رأسه بالنعال ، إلى أن مات ، فهذا الذي ادعى إحياء الموتى قد عجز أن يميت ذبابة على صغر حجمها ، وقربها منه ، وإيذائها له ، فكيف تصح دعواه بعد ذلك ؟! .
وأما الطاغية الثاني : فهو فرعون عليه لعنة الله ، الذي ادعى الربوبية ، وذكر الله تعالى قوله في ذلك : ( أنا ربكم الأعلى ) ( النازعات : 24 ) ، ومع ادعائه الربوبية ، لم يستطع أن ينجي نفسه من الغرق ، فأي رب هذا الذي يغرق ، ثم لا يستطيع أن ينجي نفسه .
فهذه الآيات تدلنا على تفرده سبحانه بالربوبية ، وأن الأمر إليه أولاً ، وآخراً ، { ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين }( الأعراف:54).
وقد كان المشركون معترفين بهذه الحقيقة ، اعترافا نطقت به ألسنتهم ، فاحتج سبحانه بهذه الاعتراف على ضلال مسلكهم في عبادتهم غيره ، وتوجههم إلى سواه ، قال تعالى : { قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده فأنى تؤفكون () قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق قل الله يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون } ( يونس:34- 35 )
وقال تعالى: { ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون } (العنكبوت:63) .
ذلك أن المنطق العقلي يقتضي أن تصرف العبادة إلى الخالق الرازق ، الذي بيده مقاليد الأمور ، أما صرفها إلى من لا يملك لنفسه - فضلا عن غيره - ضرا ، ولا نفعاً ، فهذا مما لا تقر به العقول السليمة ، ولا تؤيده الفطر المستقيمة .
وعلى ضوء ما سبق ، يبدو جليا تضافر أدلة الكتاب مع أدلة العقل على إثبات وحدانية الله عز وجل في ربوبيته ، ويتبين أيضاً مدى ضلال المشركين في عبادتهم غير الله عز وجل من الشجر ، والحجر ، وغيرها من المعبودات التي لا تملك لهم ضراً ، ولا نفعاً ، وقد جاءهم من الحجج ، والبراهين ما لا يستطيعون دفعه،ولا يملكون رفعه .