الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فقد تناولت في الحلقة السابقة ثلاثاً من البصائر الدعوية في جانب العقيدة، وسألحق بها اليوم إن شاء الله أربع بصائر أخرى، وهي:
1- البصيرة الأولى:
أن لا يبدأ من يريد تعليم العقيدة الصحيحة ونشرها بين الناس، بأسلوب رد الشبهات المثارة حولها، ومناقشة الخلافات الواردة فيها.. بل يبدأ بتقرير العقيدة الصحيحة، وإبراز أهميتها، والأدلة عليها، ومحاسنها على وجه تتلاشى أمامه الشبهات القائمة أو المتوقعة تلقائياً.. وذلك حتى لا تتداخل الشبهات مع أصل العقيدة، فتعكر من صفائها، أو تعقّد من فهمها.. أولاً وتمشياً مع ملامح المنهج الرباني الذي يبدأ بتقرير العقيدة الصحيحة، وتثبيتها في النفوس البشرية وتحصينها، قبل أن يبدأ بإبطال العقائد الفاسدة السائدة، ومناقشة شبهاتها .. ثانياً. وانسجاماً مع الفطرة البشرية السليمة التي تتقبل الحق وتقبل عليه، وترفض الباطل وتنفر منه.. ثالثاً>
2- البصيرة الثانية:
أن تُتجنب في تقرير العقيدة وتعليمها للناس الأساليب الكلامية، والمناهج الفلسفية التي صيغت بها كثير من كتب العقائد في عصور سابقة.. وأن تقدم العقيدة إلى الناس من خلال النصوص القرآنية، والأحاديث النبوية التي عرضت بها في الصدر الأول..
فكثيراً ما يعود بعد الناس اليوم عن كتب العقيدة خاصة، وإعراضهم عنها، إلى أسلوب صياغتها واعتمادها على أساليب علم الكلام والمنطق، التي كانت سائدة في بعض العصور السابقة، ومقبولة سائغة من قبل أهل تلك العصور.. حتى أصبحت مادة العقيدة الإسلامية عند كثير من الدارسين لها في المعاهد والجامعات من أصعب المواد التعليمية، وأعقد الدراسات الشرعية!!
فلا بد من العمل على صياغة المسائل العقدية في كتب العقيدة، ولا سيما للمبتدئين بأسلوب سهل واضح يناسب لغة العصر، وفهم أهله، وأن تؤخذ الأمثلة الناطقة بها من واقع الناس ومشاهداتهم وأن تربط مسائل العقيدة اليوم، بواقع الناس وسلوكهم، بدلاً من أن يمثل لها بأمثلة تاريخية قديمة، ومواقف تاريخية سابقة!!
ولا تعني هذه البصيرة التشطيب على الكتب العلمية القديمة، وتجاهل بعض المسائل العقدية الهامة، وإنما تترك للمتخصصين في علم العقيدة والباحثين فيها، الذين وضح لهم الحق من الضلال، وتميز لديهم الصحيح من الفاسد من جهة، والذين تجب عليهم الإفادة من تراث السابقين وأساليبهم في معالجة مشكلات عصرهم من جهة أخرى، فإن في مثل هذه الكتب من الفوائد مالا يستغني عنه أمثال هؤلاء..
3- البصيرة الثالثة:
أن ترتكز الكتابات العقدية الحديثة على كل من العقل والعاطفة في وقت واحد، فلا تصاغ المسائل العقدية على شكل تصورات عقلية، أو محاكماتٍ فكرية مجردة.. أو تكون عبارة عن لمسات عاطفية، ومشاعر وجدانية بعيدة عن العقل والتفكر.. بل لا بد أن من أن تلامس هذه الكتابات والمقالات روح الإنسان كما تلامس عقله، وتخاطب الفكر كما تخاطب الوجدان.. وأن يُتحدث عن خصائص العقيدة الإسلامية وآثارها في النفس البشرية بالتفصيل، كما تقرر أحكامها ومسائلها بالتفصيل، وإلا كانت عقيدة نظرية مجردة، أكثر منها عقيدة عملية مؤثرة. فإنه بقدر المزج بين العقل والعاطفة في الكتابات العقدية من جهة، وبقدر الجمع بين الأحكام والآثار، وتوثيق ربطها بها من جهة أخرى، تفعل العقيدة الإسلامية فعلها في النفوس، وتتجلى آثارها العملية في حياة الناس.. وبقدر الفصل والبعد في كتب العقيدة بين العقل والعاطفة، والحكم والأثر، تصبح العقيدة في النفوس البشرية مجرد مشاعر وجدانية، أو محاكمات فكرية جافة، أو نظريات مجردة بعيدة عن التطبيق..
فعندما يتناول الداعية الحديث عن صفات الله عز وجل وأسمائه الحسنى مثلاً، لا يصح له أن يقصر حديثه على إثبات تلك الأسماء والصفات فحسب، لتحفظ وتكرر دون استشعار لمدلولاتها، ووقوف على آثارها.. فمن المعلوم أن لكل اسم من أسماء الله الحسنى، ولكل صفة من صفاته العلى أثراً في هذا الإنسان وفي الكون من حوله، فمن البصيرة في الدعوة إلى العقيدة، أن تربط تلك الأسماء والصفات الجليلة بآثارها العظيمة النافعة..
فمن أثر الرحمن الرحيم، رحمة الله البالغة بالعباد والمخلوقات..
ومن أثر الخالق البارئ المصور، الخلق والتصوير..
ومن أثر القابض الباسط، الرزق وقبضه وبسطه..
ومن أثر المهيمن العزيز الجبار المتكبر، الهيمنة المطلقة على هذا الكون، والخضوع المطلق له سبحانه، واللجوء إليه..
ومن أثر الهادي النافع، والمعطي المانع، الاهتداء بهديه والرغبة بنفعه وعطائه، والرهبة والخوف من ضره ومنعه..
وقل مثل هذا في كل اسم من أسماء الله الحسنى وصفاته العلى التي أمرنا أن ندعو الله بها ونناجيه سبحانه.. قال تعالى: } وَللهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ { /180/ الأعراف.
والتي جاء الترغيب بإحصائها وحفظها، ليكون العبد دائماً على صلة بها، وتفكر في معانيها، فقد جاء في الحديث الشريف: ( إن لله تسعة وتسعين اسما، مائة إلا واحدا، من أحصاها دخل الجنة ) متفق عليه، كما جاء في الحديث المتفق عليه أيضاً عن عائشة رضي الله عنها: ( أن النبي r بعث رجلاً على سريَّة، وكان يقرأ لأصحابه في صلاته فيختم بـ: ( قل هو الله أحد ). فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: (سلوه لأي شيء يصنع ذلك). فسألوه فقال: لأنها صفة الرحمن، وأنا أحب أن أقرأ بها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أخبروه أن الله يحبه).
4- البصيرة الرابعة:
ينبغي أن يُغلب على أسلوبه في دعوة الناس إلى العقيدة الصحيحة، ونهيهم عن العقيدة الفاسدة، أسلوب الموعظة الحسنة على أسلوب المجادلة، وأسلوب الإشفاق والرحمة بالمدعوين على أسلوب الإنكار والتشنيع عليهم.. فيختار لذلك الأسلوب المحبب، واللفظ المؤدب..
فلا ينادى الكافر عند دعوته إلى الإسلام بلقب الكافر، ولا يخاطب الضال والمبتدع بلقب الضال والمبتدع، وما إلى ذلك من ألقاب اعتاد بعض الناس أن يوزعها على المدعوين والمخالفين، فيقابلهم الناس بمثلها أو أسوأ منها! وإنما ينبغي عليه أن يخاطبهم - إن كان داعية بصيراً - بروح الإخوة والمودة والمحبة، فيختار الألفاظ والألقاب المحببة إلى النفوس، والمؤثرة فيها، والجاذبة لها.. وإلا كان منفراً فتّاناً قبل أن يكون ميسراً مبشراً، وهادياً مهدياً..
وما أكثر ما يغفل بعض دعاتنا عن مثل هذه البصيرة، ويصور لهم شياطين الإنس والجن أن أفعالهم وأساليبهم الخاطئة هذه، بأنها جرأة في الحق، وصدعٌ به، وأنهم يكونون بذلك من الذين لا يخافون في الله لومة لائم، فيسيئون من حيث يريدون الإحسان!!
أسأل الله عز وجل أن يهدينا سواء السبيل، وأن يقينا الزلل في القول والعمل، وأن يغفر لنا ما قدمنا وأخرنا.