تستفاد دلالات الألفاظ والمراد منها بطرق ثلاثة: طريق المطابقة، وهو دلالة اللفظ على معناه الحقيقي أو المجازي، كدلالة لفظ (الإنسان) على (الحيوان الناطق). وطريق التضمين، وهو دلالة اللفظ على بعض معناه الحقيقي أو المجازي، كدلالة لفظ (الإنسان) على (الحيوان) فقط، أو على(الناطق). والطريق الثالث هو طريق الالتزام، وهو موضوع هذه المقالة. فنبين المراد بـ (دلالة الالتزام)، ثم ننعطف على بيان استثمار هذا الطريق في فهم النص القرآني.
المراد بدلالة الالتزام
تُعرَّف (دلالة الالتزام) بأنها: دلالة اللفظ على معنى خارج عن معناه الحقيقي أو المجازي، إلا أنه لازم له عقلاً، أو عرفاً. وسميت (دلالة التزام)؛ لأن المعنى المستفاد لم يدل عليه اللفظ مباشرة، ولكن معناه يلزم منه في العقل، أو العرف هذا المعنى المستفاد.
مثال على دلالة الالتزام
لفظ (الإنسان) من حيث اللغة موضوع لـ (الحيوان الناطق)، ولا يدخل ضمن هذا المعنى قابلية العلم وصنعة الكتابة، ولكن هذه القابلية صفة لازمة للإنسان السوي، فإذا سأل سائل عن شخص: هل هذا قابل للعلم وصنعة الكتابة؟ فقيل له: هو (إنسان)، فقد أجيب بالإيجاب، وذلك بمقتضى (دلالة الالتزام)؛ لأن هذه الصفة لازمة لمعنى (الإنسان). وهذا اللزوم هو من قبيل اللزوم العرفي لا العقلي.
وأيضاً لو قلنا: إن العدد ثمانية عدد زوجي، فهذا القول يدل على أن هذا العدد قابل للقسمة على اثنين دون كسر؛ لأنه يلزم عقلاً من كونه عدداً زوجياً، أنه يتصف بهذه الصفة. وهذا اللزوم هو من قبيل اللزوم العقلي لا العرفي.
و(دلالة الالتزام) موجودة بوفرة في كلام العرب، وبفضلها ترتقي البلاغة الكلامية ارتقاء عظيماً، فمن كلامهم في ذلك قول الشاعر يصف ممدوحه:
طويل النجاد رفيع العماد كثير الرماد إذا ما شتا
فقد دلَّ بطول (نجاده) - وهو حمائل السيف - على طول قامته، ودل بارتفاع (عماده) على عِظَمِ بيته وارتفاع مكانته، ودل بكثرة (رماده) على جوده؛ لأن كثرة الرماد عند العرب تدل على كثرة الطبخ، وهذه تدل على كثرة الآكلين، وكثرة الآكلين عندهم تدل على جوده، وكل هذه لوازم عرفية لا عقلية.
ومن المفيد هنا التنبيه إلى أن (الدلالة الالتزامية) عند أهل المنطق، إنما هي (الدلالة الالتزامية العقلية) فحسب، أما (الدلالة الالتزامية العرفية) فلا اعتبار لها عندهم، إنما لها اعتبار في دلالات الكلام بوجه عام، ويعتمد عليها علماء البلاغة، ويستنبط الفقهاء والأصوليون من خلالها أحكاماً فقهية وأصولية، وكذلك يفعل المفسرون.
دلالة الالتزام في القرآن الكريم
و(دلالة الالتزام) موجودة في القرآن الكريم، وقد عول عليها كثير من المفسرين في بيان المراد من النص القرآني، ويعبرون عن هذا المسلك بقولهم: "وهذا تفسير باللازم"، أو قولهم: "وهو مأخوذ بدلالة الالتزام"، ونحو هذا من العبارات الدالة على هذا المسلك في تفسير المراد من النص القرآني.
على أن بعض المفسرين يعتمدون هذا المسلك في تفسيرهم للآيات من غير أن يصرحوا بأن مُسْتَنَدَهم هو (الدلالة الالتزامية)، والزمخشري أبرز من يفعل ذلك، فقد نقل عنه أبو حيان في "البحر المحيط" عند تفسيره لقوله عز وجل: {إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا} (الإنسان:3)، قوله: "أي: مكناه وأقدرناه في حالتيه جميعاً، وإذ دعوناه إلى الإسلام بأدلة العقل والسمع، كان معلوماً منه أنه يؤمن، أو يكفر؛ لإلزام الحجة"، ثم عقب أبو حيان على هذا بقوله: "وهو على طريق الالتزام"، يقصد أن الزمخشري اعتمد (دلالة الالتزام) في بيان المراد من الآية الكريمة.
ونظير هذا المسلك ما ذكره الشوكاني عند تفسير قوله تعالى: {رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي} (النمل:19)، قال: قال الزجاج: "إن معنى {أوزعني}: امنعني أن أكفر نعمتك"، ثم عقب الشوكاني على قول الزجاج بقوله: "وهو تفسير باللازم". وهذا المسلك ملاحظ بكثرة لقارئ كتب التفسير عموماً.
أمثلة قرآنية على دلالة الالتزام
فيما يلي بعض الأمثلة القرآنية على (دلالة الالتزام) ، وأقوال المفسرين في بيان وجه هذه الدلالة.
لعل أوضح ما يدل على هذا المسلك قوله تعالى: {وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم} (التغابن:14)، فإن قوله عز وجل: {فإن الله غفور رحيم} الواقع في جواب الشرط، دالٌ عن طريق (دلالة الالتزام) على أن الله يغفر لعباده إن هم عفوا، وصفحوا، وغفروا، مع أن هذا المعنى غير مدلول عليه بمنطوق اللفظ، ولكن يلزم من كون الله غفوراً رحيماً، أن يكافئ أهل العفو والصفح والمغفرة بالرحمة والغفران؛ ولذلك حصل الاكتفاء في جواب الشرط بذكر هذين الوصفين فقط، دون التصريح بلازمهما. ونظير هذا في القرآن الكريم كثير.
قوله تعالى: {هو الأول والآخر والظاهر والباطن} (الحديد:3)، قال ابن عاشور: (الأولية) في الوجود تقتضي أن تثبت لله جميع صفات الكمال اقتضاء عقلياً بـ (طريق الالتزام) البين بالمعنى الأعم، وهو الذي يلزم من تصور ملزومه، وتصوُّره الجزم بالملازمة بينهما.
قوله سبحانه: {إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا} (يس:23)، قال المفسرون: لمَّا نُفِيَ عن شفاعتهم النفعُ للمشفوع فيه، فقد نُفِيَ عنهم أن يشفعوا بطريق الالتزام؛ لأن من يعلم أن شفاعته لا تنفع لا يُشفّع، فكأنه قال: أأتخذ من دونه آلهة لا شفاعة لهم عند الله، لإبطال اعتقادهم أنهم شفعاء مقبولو الشفاعة.
قوله تعالى: {وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله} (الأنعام:116)، قال ابن عاشور: الآية لم تقتضِ أن أكثر أهل الأرض مضلون؛ لأن معظم أهل الأرض غير متصدين لإضلال النّاس، بل هم في ضلالهم قانعون بأنفسهم، مقبلون على شأنهم؛ وإنما اقتضت أن أكثرهم يُضل، إن قَبِل المسلم قولهم، لم يقولوا له إلا ما هو تضليل؛ لأنهم لا يلقون عليه إلا ضلالهم. فالآية تقتضي أن أكثر أهل الأرض ضالون بطريق الالتزام؛ لأن المهتدي لا يُضِل مُتبعه.
قوله سبحانه: {قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا} (الأحقاف:8)، فقوله: {فلا تملكون لي من الله شيئاً} دليل على الجواب المقدر في الكلام بطريق الالتزام؛ لأن معنى {لا تملكون لي}، أي: لا تقدرون على دفع ضر الله عني، فاقتضى أن المعنى: إن افتريته عاقبني الله، ولا تستطيعون دفع عقابه عني.
قوله سبحانه: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} (الذاريات:56)، اعتراف الخلق بوحدانية الله، يدفع تكذيبهم بالرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم ما كذبوه إلا لأنه دعاهم إلى نبذ الشرك الذي يزعمون أنه لا يسع أحداً نبذُه، فإذا اندفع تكذيبهم استتبع اندفاعه امتثال الشرائع التي يأتي بها الرسول صلى الله عليه وسلم، إذا آمنوا بالله وحده أطاعوا ما بلغهم الرسول صلى الله عليه وسلم عنه، فهذا المعنى تقتضيه عبادةُ الله بدلالة الالتزام.
قوله تعالى: {فظلتم تفكهون} (الواقعة:65)، ذكر أبو حيان عدة أقوال في المراد من قوله سبحانه: {تفكهون}، قال: "قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة: تعجبون. وقال عكرمة: تلاومون. وقال الحسن: تندمون. وقال ابن زيد: تنفجعون"، وقد عقب أبو حيان على هذه الأقوال بقوله: "وهذا كله تفسير باللازم".
قوله سبحانه: {فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين} (الأعراف:83)، ذكر بعضهم أن المراد بقوله: {من الغابرين}، أي: من الهالكين، قال ابن كثير: "وهو تفسير باللازم"؛ لأن الآية لم تذكر هلاكها، و(الغبور) في اللغة قد يكون بمعنى (المضي)، وهو يستلزم الهلاك.
قوله تعالى: {لقد قلنا إذا شططا} (الكهف:14)، فسر قتادة {شططا} بـ (الكذب)، وابن زيد بـ (الخطأ)، والسدي بـ (الجور)، قال الآلوسي: "والكل تفسير باللازم، وأصل معناه: من شطَّ: إذا أفرط في البعد".
قوله عز وجل: {وتنذر به قوما لدا} (مريم:97)، روي عن ابن عباس رضي الله عنه تفسير (اللد) بـ (الظَّلَمَة)، وروي عن مجاهد تفسيره بـ (الفجار)، وعن الحسن تفسيره بـ (الصم)، وعن أبي صالح تفسيره بـ (العوج)، قال الآلوسي: "وكل ذلك تفسير باللازم".
قوله سبحانه: {ولمن خاف مقام ربه جنتان} (الرحمن:46)، قال مجاهد: هو الرجل يريد الذنب، فيذكر الله تعالى، فيدع الذنب. فالآية صريحة بأن من خاف ربه فله جنتان، وليس في لفظها أن من عزم على ذنب، ثم عدل عنه قبل الوقوع به، فله جنتان، بيد أن هذا المعنى يستفاد من الآية بطريق (الالتزام)؛ لذلك قال الآلوسي: "والذي يظهر أن ذلك تفسير باللازم".
قوله تعالى: {إن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين} (الأنعام:134)، قال ابن عطية: {بمعجزين} معناه: بناجين، وقد عقب أبو حيان على تفسير ابن عطية لهذا اللفظ بقوله: "هذا تفسير باللازم"؛ وذلك أن اللفظ صريح بنفي (العجز) عن عقابهم، وهذا يقتضي عدم نجاتهم من العقاب، وأنه نازل بهم لا محالة.
قوله سبحانه: {وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله} (النساء:64)، قال بعض المفسرين: {بإذن الله}، أي: بإرادته وأمره، قال صاحب "المنار": "وهذا تفسير باللازم؛ لأن (الإذن) في اللغة كـ (الأذان) و(الإيذان)، لما يُعْلَم بإدراك حاسة الأذنين، أي: بالسمع".
قوله عز وجل: {المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا} (الكهف:46)، قالوا في معنى {والباقيات الصالحات}: إن المراد: الصلوات الخمس، وقيل غير ذلك، وما يهمنا هنا، أن الآية تفيد بـ (دلالة الالتزام) أن غير (الباقيات الصالحات) غير باق؛ فالآية مصرحة ببقاء (الباقيات الصالحات)، وساكتة عن غيرها، لكن استفيد عدم بقاء غير (الصالحات) بـ (دلالة الالتزام) كما ذكرنا.
وهكذا يتبين على ضوء هذه الأمثلة - وغيرها كثير في القرآن الكريم - أن مسلك (دلالة الالتزام) مسلك مهم في فهم المراد من النص القرآني، وهو مجال رحب لتوسيع فهم النص القرآني، وبيان المراد منه، ومن هنا كان من المهم للمشتغل بالنص القرآني فهماً ودراسة واستنباطاً التعويل عليه، والرجوع إليه، والأخذ به؛ ليكون أقرب ما يكون إلى تحديد المراد من النص القرآني.